مقالات وآراء

زلّة لسان أم استراتيجية لهزيمة الروس.. ماذا يريد ماكرون من إرسال قوات لدعم كييف؟

فراس عزيز ديب

قد تكون العبثية في الفلسفة تعني عدم القدرة على تحقيقِ الأهداف رغمَ امتلاك الإمكانات، أما في هذا العالم الملتهب فإن العبثية لا تفرق كثيراً في التوصيف العام ربما الفارق الوحيد بأن من يملكون الإمكانات لا يملكون الإرادة فتتحول عبثيتهم إلى جرائم بحقّ الآخرين.

قد تظن وأنت تتابع الأخبار بأن قمة العبثية أن ترى من يغلق الأبواب باتجاه غزة ويطرد من جامعاته حتى من يتعاطف مع ضحاياها ويحاول إدخال المساعدات من الجو! لدرجة أن الفكرة ألهمت حتى «العبثي الأول» الأميركي نفسهِ ليقومَ بدوره الإنساني كما أعلن الرئيس الأميركي جو بايدن عن مخطط أميركي لإلقاء المساعدات على القطاع عبر الجو بالتنسيق مع الكيان الصهيوني، ألا تعني رسائل المساعدات من الجو بأن التعاطي مع جرائم الكيان وكان آخرها جريمة دوار النابلسي وقتل الجوعى والمحتاجين بدمٍ بارد والموثقة بالصوت والصورة كأمرٍ واقع هو أمر لا رجعةَ عنه؟

لكن المشاهد العبثية هذهِ المرة لم تتوقف عند حدود هذا الشرق الملتهب، فعلى الضفة الأخرى للبحر الأبيض المتوسط وتحديداً في فرنسا يقف المواطن الفرنسي هذهِ الأيام شبهَ عاجزٍ أمام الارتفاع غير المسبوق للأسعار وانخفاض القوة الشرائية، مروراً برفع أسعار الكهرباء، وصولاً إلى احتجاجات المزارعين التي طالت كل السياسيين عبر رميهم بالخضراوات بما فيهم اليمين المتطرف، يطل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون خلال مؤتمرٍ صحفي لدعم أوكرانيا ليقول: «لا يجب استبعاد إرسال قوات مقاتلة إلى كييف في مواجهة الروس.. الهزيمة الروسية هي مصلحة أوروبية».

هذه التصريحات لا يجب الاستهانة بها أو التعاطي معها فقط من خلال موقفنا من الحرب الأوكرانية، تحديداً أن المتحدث هنا ليس رئيس دولة أوروبية هامشية، هذه التصريحات فتحت الباب على الكثير من التساؤلات، والتي يمكننا تلخيصها بما يلي: هل هو إعلان حرب؟

دائماً ما يتفق فقهاء الدستور الفرنسي حول مصطلح إعلان الحرب والذي هو مهمة منوطة بالبرلمان بغرفتي النواب والشيوخ حصراً، وفق المادة الخامسة والثلاثين من دستور الجمهورية الخامسة، لكن الخلاف دائماً حول مصطلح «إرسال قوات»، ما هي مهمة هذه القوات؟ هل المشاركة بعمليات حربية مباشرةً أم لتقديم مهام استشارية وتدريبية؟ هل ترتقي لمصاف إعلان الحرب؟ بعض النواب الفرنسيين هنأ ماكرون على شجاعته بهذه التصريحات التي تهدف إلى وضع حد للتمدد الروسي وإلحاق هزيمة استراتيجية بها كما فعل السيناتور الاشتراكي، رشيد تيمال، من دون الغوص بالتداعيات الدستورية لهذه الدعوة، وحده السيناتور، جيرارد لارشيه، ذكَّر ماكرون بأنه لا يستطيع إعلان الحرب من دون اجتماع لمجلسي الشيوخ والنواب!

ربما استند ماكرون إلى المادتين الخامسة والخامسة عشرة من الدستور التي أعطته كقائد للجيش كامل الحق بالدفاع عن السيادة الوطنية ووحدة البلاد ومصالحها من خلال إرسال قوات خارج الحدود بمهمة زمنية محددة لا تتعدى الأسابيع من دون موافقة مسبقة للبرلمان، هذه الثغرة استغلها سلفه فرانسوا هولاند في العام 2013 ما مكنه يومها من إرسال قوات بمهام قتالية إلى صحراء مالي، لكن الوضع في الحالة الأوكرانية لا يمكن مقارنته بالوضع في مالي، في أوكرانيا حيث المعارك تدور بين جيشين نظاميين هما الروسي والأوكراني، أما في مالي فالمعارك كانت تدور بين جيش نظامي وتنظيمات إرهابية، يومها كان يمكن تسويغ وجود هذه القوات الفرنسية بالحرب على الإرهاب أو المصالح الفرنسية في إفريقيا، لكن كيف يمكن تبرير المغامرة الأوكرانية والقوات هناك ستكون بمواجهةٍ مباشرة مع القوات الروسية؟ هل فرنسا بشكلٍ خاص أو «ناتو» بشكلٍ عام جاهز لمثل هذه المغامرة؟

من جهةٍ ثانية هل يوجد تصريحات لمسؤول روسي واحد يهدد فيه أي دولة أوروبية بالمصير الأوكراني لكي يستفيد ماكرون من بند «الحفاظ على المصلحة العليا ووحدة البلاد»؟ بالتأكيد لا يوجد، حتى أن ردود الفعل الروسية على تهديدات ماكرون كانت عقلانية وذكرت الأوروبيين بمصالحهم العليا، على هذا الأساس لا تبدو تصريحات ماكرون دستورياً ولا حتى عسكرياً قابلة للصرف في اللعبة الجيوستراتيحية القائمة هناك فماذا عن الحلفاء؟

كان من اللافت أن معظم الصحف الفرنسية بما فيها «لوبونت» و«لوموند» تركت تصريحات ماكرون لتركز على ردود فعل الحلفاء والتي كانت بمعظمها مخيبة للأمل والتقت في نقطة واحدة: لا توجد فرصة حالياً لإرسال قوات إلى أوكرانيا وسنكتفي فقط بالمساعدات العسكرية.

هذه الحالة ينطبق عليها فكرة «التاريخ يعيد نفسه»، فعندما قام الرئيس السابق فرانسوا هولاند بالدعوة لتشكيل تحالف يُطارد العصابات الإرهابية في مالي تلقى الكثير من رسائل الدعم، وعندما دقت ساعة الحقيقة تركه الجميع بما فيهم الجار الألماني يغوص في رمال الصحراء الإفريقية رغم أن العنوان العريض «الحرب على الإرهاب» فما بالك بعنوان أشد وطأة «الحرب على روسيا»؟

في السياق ذاته رأى بعض الكتّاب والصحفيين الفرنسيين بأن ماكرون لم يكن ينتظر استجابة سريعة على دعوته، بمعنى أنه كان يدرك بأن الحلفاء سيأخذون خطوة عن دعوته، لكن ما أراده من هذهِ التصريحات هو إلقاء حجر في المياه الراكدة بعد الانتصارات الروسية المتلاحقة على الأراضي الأوكرانية لتنبيه الجميع من خطورة الوضع في أوكرانيا، والأهم التحضير منذ الآن لاحتمالية وصول الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب إلى مكتب البيت الأبيض في الانتخابات القادمة، وما يعنيهِ ذلك من تبدل محتمل في الموقف الأميركي لكون ترامب لا يريد المواجهة مع روسيا بل ولا يريد دعم الرئيس الأوكراني فلوديمير زيلينسكي، لدرجةِ أنه عقب يوماً على ما يجري بالقول: الرئيس الروسي فلاديمير «بوتين ذكي.. والقادة الأوروبيون أغبياء».

في الإطار العام تبدو هذه الفكرة التي تبرر تصريحات ماكرون والتي انتشرت كالنار في الهشيم على الإعلام الفرنسي، محاولة يائسة للملمة تداعيات هذهِ الدعوة وتداعيات موقف الحلفاء منها لا أكثر ولا أقل، هي أشبه ببيان لم يخرج عن الإليزيه بشكلٍ رسمي يتهم من تعاطى مع التصريحات بأنه أساء فهمها، وعوضاً عن ذلك أوعزوا للمقربين من الإليزيه لتعويم هذه الفكرة لأننا هنا نبدو أمام تناقضات كثيرة، إذ كيف يمكن تنبيه الحلفاء على خطورة الوضع في أوكرانيا من خلال التهديد بالحرب على روسيا؟ ثم هل إن الحلفاء هم دول لا تمتلك أي معلومات استخباراتية عما يحدث في أوكرانيا أو على الأقل ألم يكن من الأفضل استشارة الحلفاء قبل الغوص بتصريحات كهذه؟

بالسياق ذاته يبدو من المعيب بحق دولة كفرنسا أن تخشى رحيل رئيسٍ أميركي ووصول رئيس آخر، من المنطقي بأن الدول الكبرى تبني استراتيجياتها المستقبلية بما يتناسب مع مصالحها أولاً ومع إمكاناتها ثانياً، وليس بما يتناسب مع رؤية الرئيس الأميركي القادم؟ وبصورةٍ أوضح ليست التصريحات الماكرونية ولا ردود فعل الحلفاء الباردة تجاهها هي ما أحرجت فرنسا بل إن الاستماتة غير المفهومة لتجميل هذه التصريحات هي ما أساءَ لفرنسا فماذا ينتظرنا؟

ببساطة تبدو تصريحات ماكرون وتهديداته أقرب إلى زلة لسان ما كان يجب أن تصدر عن رئيس دولة كفرنسا ما لم يكن متمكناً من فكرةِ أن تهديداته سيكون لها صدى ما، ولكي نفهم حجم الحرج الذي أصاب السياسة الخارجية الفرنسية بعدَ هذه التصريحات دعونا ندقق بعدد التصريحات التي أطلقتها الخارجية الفرنسية منذ المؤتمر الصحفي لماكرون حتى مساء الأمس والتي بمعظمها تدعم صمود غزة وتحمل إسرائيل مسؤولية معاناتهم، هو أسلوب قديم- جديد يعتمد على إثارة ضوضاء تغطي على ضوضاء سابقة تريد حذفها عن مسامع المتلقي، لكن وبصورةٍ أوضح أياً كان حال الضوضاء فإن وضع السياسة الخارجية الفرنسية التي يشرف عليها ويقودها الرئيس نفسه بما فيها اختيار الوزير.. مثير للشفقة، وتباً للعبثية التي تقود هذا العالم!

كاتب سوري مقيم في فرنسا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock