منوعات

رسائل ميتيران مناعة الحب أمام السياسية: 1218 رسالة حب

هل أصبحت رسائل الحب في زمن البريد الإلكتروني موضة قديمة حيث لم تعد كتابة الرسالة الورقية دارجة عند مستخدمي الإنترنت لأن وسائل التواصل الجديدة فيسبوك وSMS أو سناب شات هي الأسرع بالطبع رغم أنها لا تنجو من مخاطر التكنولوجيا أم ما زال كثيرون يفضلون استخدام القلم على أزرار الحاسوب في التعبير عن مشاعرهم؟ لأن الرسالة المخطوطة باليد يبقى لها سحرها إذ توحي أكثر بالمشاعر وتحمل الدفء كما يمكن الاحتفاظ بها لسنين نعيد قراءتها حين نريد فتثير انفعالنا من جديد، وإذا كانت المسألة تتعلق بالأجيال فيرى البعض أن الرومانسية حاضرة مع كل جيل وفي جميع الأعمار ولا يمكن للرسالة الورقية أن تندثر لأن ما نحس به من إعادة قراءتها والاحتفاظ بها مدى الحياة لا يمكن إيجاده مع SMS، وكم من رسائل كشفت عن أسرار حب بعد نصف قرن من الزمن كما حصل مؤخراً مع نشر 1218 رسالة كتبها الرئيس الفرنسي الأسبق فرانسوا ميتيران إلى حبيبته آن بانجيو نشرتها دار غاليمار في كتاب يتألف من 1276 صفحة وذلك بمناسبة مرور مئة عام على ولادة ميتيران (1916) وعشرين عاماً على وفاته (1996) بعد تردد كبير من بانجيو التي كانت أكثر حرصاً على السرية اختارت اليوم نشر هذه الرسائل عبر معهد ميتيران الذي يرأسه هوبير فيدرين (وزير خارجية أسبق). وقد عملت دار النشر العريقة غاييمار بدقة لتحقق « ضربتها» في عملية النشر هذه علماً أنها لم تنشر يوماً كتاباً تحت عنوان (X) أو «سري للغاية» حيث تم سير ظهور الكتاب بسرية وخطة إعلامية وضعت بحيث يتم نشر بعض الرسائل مسبقاً على موقعي لوفيغارو ومجلة OBS التي كتبت تحت عنوان «رسائل مذهلة»:
إنها رواية جميلة وحكاية أجمل كان يوم سعادة دون شك حين التقيا أول مرة عام 1962 على شاطئ البحر في هوسيغور فرانسوا (46 عاماً) وآن (19 عاماً) حيث كان الشاب الاشتراكي قد مارس جزءاً كبيراً من حياته السياسية (عين وزيراً 12 مرة وكان يومها نائباً عن منطقة نييفر) مع أن الشابة الجميلة البرجوازية كانت ما تزال الحياة أمامها وهو متزوج منذ العام 1944 ولديه ولدان وفي أول رسالة كتبها لها (19 تشرين أول 1962) من قصر لوكسمبورغ يقول لها: سأرسل لك كتاب سقراط الذي حدثتك عنه وإن لم أجده فسأعطيك نسختي لأن هذا الكتاب الصغير سيكون الرسول الذي يبلغك الذكرى الصادقة لساعات قضيناها ذات صيف جميل.
وفي 14 تشرين الأول عام 1964 كتب لها: «لحظة التقيتك شعرت على الفور بأني سأذهب في رحلة طويلة وحيث سأمضي ستكونين معي دائماً أبارك وجهك الذي يشع نوراً ومعه لن يكون هناك ليل مطلق وستكون وحشة الموت أقل وحشة».
رسائل الحب هذه التي استمرت ما بين عامي 1962-1995 تميزت بقوتها وعلى الأخص بفرادة أدبية اقتحمت العقل السياسي لتؤكد موهبة ميتيران الأدبية وثقافته الواسعة فقد كان آخر رئيس فرنسي يبجل لغته ويعرف كيف يلون الاستعارات المجازية ويستطيع أن يكتب أشعار حب مؤثرة من قلب عاشق ولهان ثم يؤطر الرسالة بإطار مذهب ذلك لأن فرانسوا ميتيران أحب بجنون حتى آخر نفس في حياته أحب آن بنجيو التي كانت تتذوق الفنون الجميلة فكانت شغفه الدائم ووجعه الكبير حين تمرض وأي ارتباك كان يعتريه، لقد أخفى لهباً جميلاً على مدى اثنين وثلاثين عاماً والتزم صمتاً أباح به شعراً: «حبيبة ووردة وشمس ساطعة» فاستطاع أيضاً أن يجنبها قسوة البروتوكول وثقل الأعباء الرئاسية وأن يجنب الوجه الشاعري من الوقوع تحت نثر التنفيذ ذلك أن بنجيو ما لم تكن السيدة الأولى فقد كانت دون منازع حبه الأكبر الذي يقويه حيث كتب لها ذات مرة: «كل ما أقوله إلى الجمهور المجهول في الخطابات هو عمل مرهق وعبثي على الأخص حين أفكر بأن الحب وحده بتفاصيله يمدني بالقوة التي لا يعادلها شيء».
وتحت عنوان: «رسائل ميتيران، مناعة الحب أمام السياسية» وردت رسالة كتبها لها عام 1965 يقول فيها: «بعد تأمل طويل علمت الآن عقب اجتماعي مع الجنرال ديغول في مؤتمر صحفي أني مرشح لرئاسة الجمهورية، في هذه اللحظات الحساسة المؤثرة وأحياناً دراماتيكية هل تعلمين أني أفكر بك وبهذا الحب الرائع أستمد القوة من حنو ذراعيك ولهيب شفتيك من السلام الذي تحملينه في داخلك».
وفي جزء لم يظهر منه إلا القليل من رسائلها تدعوه فيها: «يا عالمي يا خالق فرحي في الحياة» تبدو المرأة الشابة لم تتقبل أن تبقى مستترة بل طلبت منه أن تشاركه الحياة علناً وأن تمارس مطلق حريتها وهذا لم يكن ليتحمله لأنها كانت ستلد في 18 كانون الأول 1974 ابنتهما مازارين إنما بعد انتخابه عام 1981 انضم إليهما دون أن تنكشف القصة حتى عام 1994 حين نشر مصوران صورة له مع ابنته مازارين وهما خارجان من أحد المطاعم أي أن هذه العلاقة بقيت سراً شائعاً حيث كانت الطبقة السياسية على علم بذلك لكن الصحفيين لم يكتبوا شيئاً حولها.
وحين دخل ميتيران إلى الإليزيه تبعته النخب الثقافية حيث كان يلتقي الكاتبة مارغريت دوراس وكان الوزراء رولاند دوماس وهوبير فيدريين وجاك لونغ يتنافسون على تقديم الكتَاب إلى الرئيس حيث تم استقبال أكثر من 200 شخصية أدبية على مآدب الغذاء في القاعة الخاصة ومنهم فرانسوا ساغان وبلوندان كما يروي ريجيس دوبريه وكان ميتيران يتنقل بطائرة الهيلكوبتر لزيارة الأدباء الذين يحبهم.
ومع بقائه في الإليزيه 14 عاماً لم تنقطع رسائله لتلك المرأة التي أحبها بجنون حيث كتب لها مرة: «حبك بحد ذاته مهمة آخاذة، لقد منحني هذا الحب الشعور بالخلود الأزلي».
لقد وصفت هذه المراسلات التي استمرت ثلاثةً وثلاثين عاماً بأنها مدهشة ليس لعدد الرسائل إنما للمدة التي امتدت في تبادلها إلى وقت قصير قبيل وفاة ميتيران وتميزت هذه الرسائل بالتنوع والحميمية والشاعرية رغم الاعتبارات السياسية فمن المهم ملاحظة كتابتها خلال أحداث سياسية مهمّة مثل اضطرابات أيار 1968 وانتخابات 1978 و1981 كما فيها من الأدب ما لم يشهده تاريخ قائد سياسي تحدث بالأدب مثل فرانسوا ميتيران وكانت آخر رسالة كتبها لها في 22 أيلول 1995 قبل وفاته بثلاثة أشهر يقول فيها: «أحب صوتك حتى لو كان يقسو علي أحياناً، أنت النور في حياتي وبعيداً عنك كل شيء مظلم، سعادتي حين أفكر بك، قدمت لي الكثير وكنت فرصة عمري فكيف لا أحبك أكثر؟».

مها محفوض محمد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock