مقالات وآراء

اللعب مع الكبار

لم تبق من سجادة حمراء إلا واستخدمت في باريس ترحيباً بالرئيس الأميركي دونالد ترامب وعقيلته ميلانيا، مصافحات استمرت عدة دقائق، ابتسامات وعشاء «أصدقاء» في برج إيفل الشهير، وفي النهاية، العرض العسكري الذي جاء ترامب ليحضره بمناسبة احتفالات فرنسا بعيد الثورة المقام في الرابع عشر من كل تموز.

هو الاحتفال الأول للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وهو المناسبة والفرصة للرئيس الشاب لتعانق بلاده الولايات المتحدة الأميركية أكثر فأكثر طامحاً بشراكة، أو إشراكة، ولو بسيطة، في السياسة الدولية التي باتت تتقاسمها واشنطن وموسكو، بعد أن طردت أوروبا الغارقة في مشكلاتها.

ماكرون، الأوروبي بامتياز، يريد لبلاده ولقارته أن تستعيد دورها وألقها، وهو مستعد لفرش كل ما هو أحمر تحت أقدام الرئيس الأميركي، لعله يفتح نافذة ولو صغيرة للقارة العجوز لتقول كلمتها على الساحة الدولية.

ماكرون يبادر، ويطرح، وبعد نجاحه اللافت في الانتخابات الفرنسية، وقيادته لـ«ثورة» حزبية، إن صح التعبير، وإزاحة الأحزاب التقليدية من داخل البرلمان الفرنسي ليؤسس خلال أسابيع حزباً سياسياً يتمتع بأغلبية ساحقة تمكنه من حكم فرنسا، يتطلع الآن إلى قيادة أوروبا وتنصيب نفسه زعيماً لابد من استشارته.
فإذا كانت ألمانيا العمود الفقري الاقتصادي لأوروبا، فلابد أن تكون فرنسا عمودها السياسي، وهذا ما يعمل عليه ماكرون مستغلاً خروج بريطانيا وخلو الساحة الأوروبية من المبادرات السياسية.

طوال زيارة ترامب إلى باريس، حرص ماكرون على ألا تظهر فرنسا أنها تخضع سياسياً للولايات المتحدة الأميركية، أراد للعالم أن يشهد ندية العلاقات بين البلدين والصداقة التي تربطهما، وفقط الصداقة، لا أكثر.

فعل الأمر ذاته حين زار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قصر فرساي منذ شهرين، فوقف ماكرون إلى جانب الزعيم الروسي ليتحدث عن عمق العلاقات التاريخية التي تربط بلديهما وضرورة بناء علاقات ثقة مع الفيدرالية الروسية وبدا وكأنه يتحدث بلسان الاتحاد الأوروبي الذي يفرض عقوبات على روسيا وليس لسان رئيس فرنسي منتخب حديثاً.

منذ شهر، علقت الدوائر الرسمية الفرنسية الصورة الرسمية الجديدة لرئيس الجمهورية ماكرون، ولأول مرة وبصورة غير تقليدية ظهر العلمان الفرنسي والأوروبي معاً في الصورة وخلف الرئيس نافذة مفتوحة في إشارة إلى انفتاح فرنسا نحو العالم.

الصورة كانت موضع سجال كبير في فرنسا، ليس لأنها فقط غير تقليدية، بل لأنها تتضمن أيضاً رسائل استثنائية وتحديداً تلك التي تتعلق بالاتحاد الأوروبي، فماكرون لن يكون رئيساً «عادياً» كما أراد أن يكون سلفه فرانسوا هولاند، يتطلع أن يكون رئيساً استثنائياً، فهو براغماتي وينتهج سياسة الواقع، ويريد لقارته أن تتخلص من عبء السياسات القديمة الخاضعة للولايات المتحدة الأميركية وأن تبادر لحماية مصالحها وتاريخها.

من خلال استقباله لترامب والحميمية التي أظهرها ماكرون لضيفه، يمكن أن نقرأ الرسالة التالية: أنتم مرحب بكم في فرنسا كصديق وليس كسيد، ونريد من بلدكم أن يستمع إلينا وأن يحاورنا لا أن يفرض علينا قراراته.

صحيح أن الزيارة لم تبحث في ملف المناخ الذي انسحب منه ترامب ولا اتفاقيات التجارة الحرة التي يريد سيد البيت الأبيض ضبطها، لكنها بحثت في السياسة الدولية ومسائل مكافحة الإرهاب والأمن والأمان العالميين، وهي تحديداً الموضوعات التي يريد ماكرون الانخراط فيها دولياً ليعيد لفرنسا والقارة الأوروبية ألقها.

تذكرنا تصرفات ماكرون اليوم بتصرفات الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي الذي كان متحمساً على الدوام بحثاً عن دور ما في الشرق الأوسط، ومن بين القصص التي نشرت عن ساركوزي وبعد اندلاع حرب غزة، اتصل الرئيس الفرنسي طالباً موعداً مستعجلاً من الرئيس بشار الأسد، ووصل إلى دمشق، وما إن بدأ الاجتماع حتى بادر الرئيس الأسد ليسأل ضيفه عن سبب الزيارة المستعجلة، فكان جواب ساركوزي: أريد فقط أن أستمع منكم إن كان لديكم أفكار لوقف الحرب على غزة! استغربت الرئاسة السورية طرح ساركوزي آنذاك وكان المأمول أن تكون للرئيس الفرنسي مبادرة يطرحها أو يبحثها، أما أن يأتي خالياً من الأفكار والمبادرات، فبدا الأمر وكأنه خطوة إعلامية لا أكثر ولا أقل، وغادر ساركوزي دمشق وتوجه إلى القاهرة ومن ثم إلى إسرائيل وعاد في نهاية المطاف إلى باريس من دون أن يحقق أي شيء فكان يبحث فقط عن دور يمكن لسورية أو لأي دولة عربية منخرطة في الصراع مع إسرائيل أن تمنحه إياه.

اليوم يطرح إيمانويل ماكرون مبادرة جديدة تجاه سورية، ويريد اللعب مع الكبار، الروسي والأميركي، ويأمل بدور لبلاده في إعادة بناء سورية ووضع حد للحرب الدائرة فيها، ومن أجل ذلك، ومن أجل تسلم زعامة الاتحاد الأوروبي، فهو مضطر أن يجامل، وأن يمد كل ما تمتلكه بلاده من سجاد لكلٍ من روسيا والولايات المتحدة الأميركية، اللاعبين الأساس في العالم.

فهل ينجح ويقود الاتحاد الأوروبي نحو سياسة أكثر واقعية تجاه الصراع على سورية؟ وينفتح على دمشق ويصحح أخطاء سلفه وأغلبية قادة الاتحاد الأوروبي؟ أم يبقى ساعياً في البحث عن أفكار كما كان ساركوزي، ويتوه في كواليس السياسة الدولية؟! أسئلة ستجيب عنها القادمات من الأيام.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock