مقالات وآراء

بين اعترافات كيري ووهم التحول التركي: ولّى زمن المعجزات

(راقبنا تنظيم «داعش» منذ ظهوره وظننا أن نمو قوته سيجبر الأسد على التفاوض، وهذا لم يحدث بسبب التدخل الروسي): عبارة وردت في تسريبات نشرتها صحيفة «النيويورك تايمز» قالت فيها إن وزير الخارجية الأميركي «جون كيري» أسرّ بها لمجموعة من المعارضين السوريين نهاية أيلول الماضي.

منذ شباط الماضي إلى نهاية أيلول وصولاً إلى مطلع العام الجديد، ثلاثة تسريبات نشرتها «النيويورك تايمز» لـ«كيري» بدا في كلّ منها رسالة ما؛ ففي شباط طلب «كيري» من المعارضة القبول بالذهاب إلى «جنيف» لأن الروس حسب تعبيره «سيسحقونهم». أما حديثه في شهر أيلول فكان نصفه الأول عن طلبه من المعارضين القبول بانتخابات رئاسية يترشح فيها «الأسد»، ما شكل يومها صدمةً لهم، أما الجزء الثاني من الحديث وهو ما تم تسريبه هذه الأيام فيبدو فيما يبدو الخلاصة الأهم، لأنه فتح وسيفتح الكثير من الأبواب حول التساؤلات المشروعة التي لا تثبت من حيث لا يدري «كيري» حجم النفاق الأميركي فحسب، لكنها تختصر كثيراً ما يجري في سورية، فهو يقر ضمنياً أن الولايات المتحدة استخدمت «داعش» وسيلة للدفع بالقيادة السورية لتقديم التنازلات بما فيها رحيل الأسد. هذا التسريبات لا يمكننا إدراجها في إطار «تلاوة فعل الندامة» على طريقة «أوباما»، تحديداً أنه كلام ينسف الرواية الأميركية كاملةً بما فيها ادّعاء الحرب على «داعش»، فكيف ذلك؟

بالعودة قليلاً لشريط الوهم «الداعشي» الذي تبارى الجميع في تكبيره كوهم لإرعاب الجميع، فإن التدخل الروسي الرسمي جاء بعد عام كامل من ادعاء الولايات المتحدة تشكيل تحالف للحرب على «داعش». لم تتعاظم قوة التنظيم الإعلامية والعسكرية خلال هذا العام فحسب، لكنه وخلال حرب التحالف المزعومة عليه قام بالسيطرة على مناطق مهمة وشاسعة، بما فيها «الموصل» في العراق، والمناطق الممتدة من غرب «تدمر» وصولاً إلى حدود السورية العراقية. إذاً وانطلاقاً من اعترافات «كيري» فإنه لا يمكننا القول إن الولايات المتحدة كانت في الحد الأدنى تنتظر وتتابع بهدوء وصول «داعش» إلى دمشق، لكنها كذلك الأمر سهلت له عمليات التمويل والتسليح، فبعيداً عن رواية إلقاء السلاح للتنظيم إرهابي من الطيران الأميركي التي سيقول عنها البعض إنها «أوهام»، ماذا عن سيطرة التنظيم وبسهولة مطلقة على معسكرات للجيش العراقي والتي تعج بالأسلحة الأميركية، ألم يكن هذا الأمر تسليحاً غير مباشر؟ في الاتجاه الثاني فإن الولايات المتحدة دافعت عن حليفتها حكومة «العدالة والتنمية» عندما بثّت صوراً جوية تثبت تعاطي الأتراك رسمياً مع التنظيم في سرقة النفط السوري، ألا يعتبر هذا الأمر تمويلاً غير مباشر للتنظيم وباعتراف رسمي أميركي؟ أما عن مراقبتها لتعاظم قوته، فهل سيطرح الشرفاء في الأردن الآن سؤالاً منطقياً مفاده: من الذي أسقط فعلياً طائرة «معاذ الكساسبة» وما مصلحة جهات أمنية أردنية بإخفاء حقيقة ما جرى تاركين الناس يعيشون وهم أن «داعش» يمتلك القدرة على ذلك؟!

أما النقطة الأهم في مقاربة اعترافات «كيري» فإنها تتطلب منا العودة لما كان يحكى عندما ظهرت «جبهة النصرة» الإرهابية على الساحة، واتهام القيادة السورية بأنها من يقف خلف ظهورها للإساءة لما يسمونها «الثورة السورية»، لنكتشف بعدها أن الإرهابي «الجولاني» أصبح ضيفاً دائماً على قناة «آل ثاني»، بالطريقة ذاتها فإن الأمر ذاته كان يقال عن تنظيم «داعش» وخفايا ظهوره. لقد أتقن الإعلام الغربي فن صناعة الكذب، أقنعوا فيها الجميع بأنه من «صناعة النظام» لدرجة أن هذا السؤال يتكرر على لسان أي صحفي غربي يلتقي الرئيس الأسد. انطلاقاً من هذه المقاربة فإننا نسأل من بقي في عقولهم بعض من القدرة على التفكير: ما هذا «النظام» الساذج الذي أنشأ «داعش» وقوّاها لتحاربه وتصبح قوة بيد الأميركي ليضغط عليه بها باعتراف «كيري» نفسه؟
ربما -نقول هذا للأسف- فلو أجرينا استطلاعاً في الدول العربية تحديداً لوجدنا أن الأغلبية الشعبية مغسولة الدماغ ومقتنعة بكل ما قيل ويقال من أكاذيب، لأن هناك من نجح إعلامياً بتسويق ما يريد بما فيه تعويم فرضية الصراع «الشيعي- السني» بدلاً من الصراع «العربي- الإسرائيلي»، لدرجة بات فيها مغسولو الدماغ في هذه الأمة مقتنعين بأن السعي العراقي لاستعادة «الموصل» من أيدي «داعش» هو بالنهاية حرب إبادة طائفية، على حين لا يزال الإعلام الآخر مشغولاً بعقد ندوة عن (دور الإعلام في محاربة التسول!! ليتهم حددوا لنا أي نوع من التسول يقصدون!).

هكذا نجحوا وهكذا فشلنا لأننا بالأساس مجتمعات غير محصنة، لكن هل يمكننا اعتبار تسريب كلام «كيري» عملاً استخباراتياً؟ أم إنه مقصود من قبله للتكفير عن الذنب تحديداً أن الجو العام يقودنا نحو نزوع الجميع لتهدئة شاملة تسبق استلام «ترامب» لمنصبه، بما فيها ما تضمّنه الإعلان الروسي عن سحب قطع بحرية من المياه الإقليمية السورية؟!

أياً كان الهدف من تسريبات كهذه، ما زالت تعقيدات الحلول في المنطقة يلفها الكثير من الضبابية، حتى إن الذين يرجحون خلافاً (روسياً- إيرانياً) حول آليات وقف إطلاق النار من جهة ومحددات العملية السياسية من جهة ثانية جاءهم انسحاب القوات البحرية الروسية كمادة دسمة لتفعيل وجهة نظرهم تلك. أما النظام التركي فيصول ويجول كيفما يشأ، تارة يطالب باستبعاد الأسد من مستقبل سورية وتارة أخرى يصر على استبعاد مكون أساسي سوري من محادثات الآستانة علماً أن الكلام سابقاً تمحور حول عدم استبعاد أحد وعدم التدخل بما يريده السوريون، إضافة إلى استمراره بقصف مناطق مدنية سورية ما أدى لسقوط عشرات الشهداء، فماذا ينتظرنا؟

يبدو حال الجميع الآن أشبه بالفوضى التي تسبق انطلاق المباراة، عندما ينزل اللاعبون جميعاً إلى الساحة، حتى إنك تكاد لا تعرف ما التشكيلة الأساسية. حديث الروس بأن اتفاق التهدئة تم من دون واشنطن يعيدنا لما قلناه في الأسبوع الماضي: هل حقاً يمكن أن تنجح محادثات «الآستانة» أساساً أو أي حل سياسي من دون واشنطن؟! النقطة الثانية والتي تبدو جوهرية، هل التركي شريك أم طرف؟ لأنه وبواقعية تامة لم يقدم حتى الآن ما يمكننا تشجيع الروس على فخرهم بما يسمونها الاستدارة التركية، أو تقديم ما يمكننا تسميته بداية التطلع نحو الهروب من المستنقع السوري، حتى زيارة «يلديريم» لبغداد لا يبدو أنها ستحمل جديداً بما يتعلق بالدور التركي في تخريب هذا البلد، فكيف علينا أن نقتنع بأن تحولاً ما في الدور التركي سيكون قادماً في الملف السوري. ربما ما يمكننا الاقتناع به هو ما قاله يوماً السيد «وليد المعلم» بأن التحول في الموقف التركي يحتاج لمعجزة، صدق.. لأننا لسنا في زمن المعجزات، وما عليكم إلا انتظار وصول «ترامب» رسمياً، والباقي سيكون مجرد تفاصيل.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock