مقالات وآراء

صراع القيم

منذ انعقاد قمة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس الأميركي دونالد ترامب في هلسنكي في 16 تموز الجاري والحوارات والتصريحات من الرئيسين ومن الأطراف الأخرى تلفت الانتباه لجدول أعمال القمة وتساعد على استنتاج ما جرى فيها وما جرى بعدها وما المتوقع أن يجري في المستقبل القريب والمتوسط. لقد كان لافتاً أن معظم ردود الأفعال الأميركية التي هاجمت مواقف ترامب بشدّة كانت قلقة من هزيمة ما يسمونه «القيم الأميركية»، وظهرت الرسومات التي تظهر شخصية الكاوبوي الأميركي المعروف ولكن يطلق عليه ترامب النار، كما عبّر أعضاء الكونغرس وسياسيون ومثقفون عن غضبهم من ترامب لأنه لم ينتصر «للقيم الأميركية» وترك بوتين يتفوق عليه في هذا المنحى العام. ومن هنا يبدو أن المهم ليس فقط ما تمّ الاتفاق عليه بين الرئيسين ولكن ما الصورة التي انطبعت في أذهان العالم نتيجة هذا اللقاء.
لا شك أن المتفق عليه بين جميع الأطراف، من دون أن يعلنوا ذلك، هو أن مواقف بوتين وأداءه كانا أشدّ إقناعاً للجميع بمن فيهم الأميركيون، ومن هنا نفهم غضب النخبة الحاكمة وممثليها السياسيين والإعلاميين من الانتصار غير المعلن لبوتين على ترامب في هذا اللقاء. ولكن الحق يقال لم يظهر بوتين وكأنه يهدف إلى الانتصار على ترامب بل ظهر قائداً عالمياً مسؤولاً مسكوناً بهدف إحراز توافق في هذا العالم بين قوتين نوويتين حيث قال بوتين في مؤتمره الصحفي: «وبصفتنا دولتين نوويتين رئيسيتين علينا مسؤولية كبرى تجاه الأمن الدولي، وقد تحدثنا أنه من الضروري أن نبني حوارنا حول الاستقرار الإستراتيجي وعدم انتشار الأسلحة النووية، وقد نقلنا إلى زملائنا ورقة فيها عدد من المقترحات في هذا الموضوع».
أي إن الاتفاق حول مثل هذا الموضوع المهم يلامس أمن البشرية جمعاء ومن هنا تأتي ضرورة الاتفاق بين روسيا الاتحادية والولايات المتحدة. وفي المؤتمر الصحفي نفسه في هلسنكي قال بوتين: «اقترحنا على السيد رئيس الولايات المتحدة أن يفكر ليس فقط في المسائل اليومية ولكن حول فلسفة بناء العلاقات وذلك بمعاونة خبراء يعرفون جيداً تاريخ وتفاصيل التعاون بين روسيا والولايات المتحدة، وأن فكرة إنشاء مجلس خبراء من العلماء والدبلوماسيين والعسكريين الروس والأميركان يبحثون عن نقاط تماس بين البلدين وإدراك طريقة جعل التعاون الدولي ثابتا يمشي على مسار سليم».
أكاد أجزم أن الرئيس بوتين لم يدرج العلماء على رأس الخبراء من قبيل المصادفة حيث تلاهم الدبلوماسيون ثم العسكريون، ذلك لأنه يؤسس لعالم تتناغم فيه الأفكار والثقافات والقيم وهو يدرك أن حلّ الخلافات الثقافية سواء أكانت ثقافة السياسة أم المال أو الاقتصاد هو المفتاح الحقيقي للتفاهم والتعاون والتواصل المثمر والمستمر والبناء بين الدول. وفي هذا الإطار تكاد تصريحات الرئيس بوتين في قمة البريكس التي عقدت في جوهانسبرغ، جنوب إفريقيا، تستكمل تماماً ما بدأه في قمة هلسنكي وترسم الإطار الأوسع والأشمل له وتوضح جذر المشكلة بين ما يسعى لتحقيقه وبين ما يثير غضب وجنون بعض الدوائر الفكرية والإعلامية والدبلوماسية الغربية.
ففي ختام قمة البريكس أكد الرئيس بوتين أن الدول المجتمعة قد اتفقت على محاربة الإرهاب: «وتنسيق نشاطنا في مجالات السياسة والاقتصاد والتجارة وحماية الأطر المتعددة الأطراف والاستفادة من ثمرات الثورة الصناعية الرقمية الرابعة وذلك من أجل التأسيس لعالم مختلف. كما أكدت الدول ضرورة الحفاظ على منظمة التجارة العالمية والتصدي للحمائية التجارية وتغيير قواعد التجارة العالمية». في هذه النتائج اعتراض واضح على عودة الرئيس ترامب إلى الحمائية التجارية وخرقه الصارخ لقواعد منظمة التجارة العالمية التي تقوم على التنافسية، حيث أكد ترامب في كلماته بمناسبة الانتخابات النصفية أنه تمكن من أن يحصل على مليارات الدولارات من حلفائه الأوروبيين ومن منافسته الصين، وأنه تمكن من أن يعيد الأميركان إلى سوق العمل وأن يحقق جباية مالية غير مسبوقة للولايات المتحدة من الدول التي ابتزتها سياسياً كالسعودية ودول الخليج. هل أصبح واضحاً الآن الفرق بين المفهومين وبين منظومة القيم التي يتحدث عنها الرئيس بوتين من جهة، ويحاول إرساء قواعدها في العلاقات الدولية، وبين محاولات ترامب جباية الأموال وتحقيق الوفر للولايات المتحدة بغض النظر عن الخروقات التي تحققها هذه الجباية لقواعد وأطر واتفاقات النظام الدولي؟
لقد درج الغرب منذ عقود، أو حتى قرون في حال المملكة المتحدة البريطانية، على اعتبار نفسه سيد الكون وعلى استثمار ونهب مقدرات الشعوب والتعامل معها بفوقية على اعتباره المنقذ والمثل والمدبّر للأمر، وكل ما على البشر أن يفعلوه هو أن يتعلموا منه أو أن يأخذوا بصيصاً من علمه ومعارفه وقيمه، ومن هنا فقد حاول وما زال ينشر «الديمقراطية» التي تمثله هو في العالم، «الديمقراطية» التي تكرّس القيم الغربية حصراً لأنها تعترف بتفوّقها على جميع القيم للشعوب الأخرى. ومن هنا كانت الحروب والانقلابات التي دبّرتها المخابرات الغربية في دول مختلفة من العالم لا لكي تكون هذه الدول أكثر ديمقراطية بل كي تكون أكثر امتثالاً للمصالح الغربية وإيماناً بالتفوق الغربي على جميع القيم في العالم. ولذلك فإن لقاء بوتين وترامب أثار حفيظة الغربيين المتعصبين الذين يشكلون النسبة الكبرى من النخبة الحاكمة وممثليها في الإعلام والحكومة، لأنه شكّل مؤشراً واضحاً لحضور قيم أخرى جديرة أن تكون بديلاً للقيم الاستعلائية والاستعمارية الغربية. ومن المنظور ذاته يجب فهم تصريح وزير الدفاع الأميركي ماتيس الأخير حول إيران حين قال: «إن واشنطن لا تسعى لتغيير النظام في إيران بل لتغيير سلوكه»، ومن المنظار نفسه فقد سعت الدول الغربية وبتمويل من بعض دول الخليج وتدخل تركيا لتغيير النظام في سورية من خلال حرب إرهابية حين عجزت بالفعل عن تغيير سلوك النظام. إذاً يريدون أنظمة تابعة فاسدة تخلق على صورتهم وتصنع من خلالهم سواء أكانت «ديمقراطية» أم دكتاتورية، ولكن العالم مختلف جداً اليوم، فالديمقراطية في الهند تعتمد الثقافة الهندية أساساً والديمقراطية في الصين تعتمد القيم الصينية أساساً لها، والديمقراطية في إيران تمثل الحضارة الفارسية الإسلامية، والديمقراطية في روسيا تقوم على أسس الثقافة الروسية ومصلحة الشعب الروسي والقائمة تطول. لقد ولّى زمن الديمقراطية الليبرالية الغربية التي قد تناسب شعوب الغرب ولكنها بالتأكيد لم تعد وصفة مقبولة لدى الجميع في عالم اليوم. لقد كان لافتاَ ما قاله بوتين عن آليات عمل دول البريكس حين قال: «لا توجد دولة تتولى القيادة وإن القرارات تُؤخذ بالتوافق».
دول البريكس ودول الشرق ومعظم دول العالم تسعى إلى عالم متعدد الأقطاب تبني فيه كل دولة وأمة ثقافة النظام والأسلوب السياسي الذي يناسب شعبها على أن يكون التعامل بين هذه الدول على أساس المساواة والندية والاحترام والمصلحة المتبادلة وهذه هي بداية النهاية للقيم الاستعمارية والاستعلائية والفوقية. إنها مسألة زمن فقط.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock