مقالات وآراء

عندما تتزين الانفصالية بثوب الديمقراطية

لا يخفي مسؤول أميركي عالي المستوى رغبة واشنطن، وعملها من أجل «عدم السماح لأي طرف بإعادة نظام الأسد الوحشي إلى عفرين» حسب تعبيره، وكما نقلت عنه وسائل إعلامية عديدة تعليقاً على العملية العسكرية التركية في عفرين، أي إن واشنطن لم تعد تخفي أهدافها في سورية شمال شرقها، وشمال غربها، والمتمثلة بمنع عودة مؤسسات الدولة السورية، وإنشاء كانتونات، ومحميات تحقق لهما هدفين معلنين، الأول: يتحدث عن منع عودة داعش، وهذا أصبحنا نفهمه جميعاً على أنه شماعة، لأن داعش صناعة أميركية، واحتواء إيران، واستنزاف حلفاء سورية، وأما الثاني: فهو العودة لنغمة إسقاط النظام السوري، حسب مصطلحاتهم، على الرغم من أن ما سقط، وما تهاوى حتى الآن هو «النظام الأميركي» الذي كان مزمعاً بناؤه في سورية.

إن أهم ما في التصريحات الأميركية المتتالية، أن اللعب أصبح فوق الطاولة، ولم تعد نغمة محاربة الإرهاب وداعش، تحتل الأولوية، وكأن داعش اختفت من التداول، وتحولت الأمور نحو كشف الأهداف الحقيقية لواشنطن وتل أبيب، وأتباعهم في المنطقة، وهذا على ما أعتقد يريحنا أكثر في المواجهة التي بدأت تأخذ عناوين إثنية انفصالية، بعد أن انتهت العناوين المذهبية الطائفية من التداول.

الرئيس بشار الأسد، وفي أكثر من مقابلة ولقاء، اعتبر أن الحرب على سورية في ربعها الأخير، ولكنه الأكثر خطورة، والأكثر استنزافاً، وعنوانه سيكون «الورقة الإثنية».

وما يجعل الأمور أكثر اتضاحاً هو «معركة عفرين» التي هي بالتأكيد أرض سورية، وليست كردية كما يريد البعض أن يروجها لنا، إذ لا يوجد شيء اسمه «أرض كردية»، بل أرض سورية يتشارك ويتجانس فيها كل السوريين بمختلف هوياتهم ومكوناتهم، والمشكلة هي في ذلك الخطاب الانفصالي عن سورية، وعن الواقع الذي يريد بعض هواة السياسة، والتطرف الإثني من «السوريين الأكراد» أن يروجوه وأن يستجروا العواطف القومية ليدفعوا بالمواطنين السوريين الأكراد إلى معارك طواحين الهواء، وإلى حروب لا مصلحة لهم فيها، لأنهم سيدفعون الثمن مجاناً من أجل قيادات تعيش في الجبال وليست موجودة على الأرض، قيادات لم تقرأ الدرس في شمال العراق جيداً، وتريد تكرار السيناريو ذاته على الرغم من إدراكها أنه لا حاضن وطنياً للمشروع، ولا حاضن عربياً، ولا حاضن إقليمياً، ما عدا حاضناً إسرائيلياً بدا واضحاً، ومحرضاً في شمال العراق، وهو كذلك في شمال سورية لأن أميركا هناك، ومن تدعمه أميركا ضد وحدة بلاده، وجيش بلاده، ودستور بلاده فهو مشبوه ومرتبط وعميل وخائن مهما حاول أن يُزين العبارات، ويتمسكن علينا باسم المظالم تارة، وباسم الحريات، والديمقراطية تارة أخرى.

مشكلة هؤلاء «المساكين»، أنهم كالحائط لا يقرؤون ولا يفهمون ولا يتعلمون، ويريدون أن يفرضوا مشروعاً انفصالياً على السوريين جميعاً تحت عنوان الفيدرالية، كما يريدون أن يقولوا لنا إن أحدث أشكال الديمقراطية هو أن ترسخ عبادة الفرد، عبد الله أوجلان نموذجاً، وأن تفرض لهجتك على الناس شاؤوا أم أبوا، وأن تفرض نظام الكفيل في مناطق تختطفها بقوة السلاح وليس بمفهوم القانون المعاصر، وفلسفته، والحقوق، والواجبات، إذ يحق لك ككردي أن تقيم، أما إذا كنت عربياً فتحتاج إلى كفيل كردي، والهدف هو شد العصب القومي، وإظهار المزايا التي يمكن أن تتحقق لبسطاء الأكراد، كما كان الأمر في شمال العراق، ليسهل على اللصوص النهب والسلب باسم القومية الكردية، كما نهب وسلب كثيرون باسم القومية العربية التي ينتقدها الساسة الكرد، ويمارسون أبشع منها.

فوزة يوسف الرئيسة المشتركة لما يسمونه «الهيئة التنفيذية لإقليم شمال سورية» الذي يديره ما يسمى «حزب الاتحاد الديمقراطي»، وفي مقابلة مع صحيفة «الأخبار» اللبنانية تقدم لنا نظرية جديدة في العلاقات الدولية، وتكرر عبارات ببّغائية مللنا منها جميعاً، ونحن نسمعها، إذ تريد السيدة يوسف أن تقنعنا أن الروس هم المسؤولون عن العدوان التركي على عفرين، على الرغم من محاولات طويلة عريضة قامت بها موسكو لاحتواء هذا الاتجاه الانفصالي، وحسب معلوماتي، جرت عدة اجتماعات مع قيادات سورية كردية لبحث مطالبهم، وقدمت الرؤية الحكومية التي تتمثل في أن الدستور السوري الحالي يضمن الحقوق الثقافية لكل السوريين وأن قانون الإدارة المحلية، أي اللامركزية الإدارية، يحقق الكثير من مطالبهم في المشاركة والتنمية، وهو مفهوم مختلف عن الفدرالية التي هي أقرب إلى نموذج شمال العراق تماماً، ومع ذلك لم يعجبهم ذلك، ورفضوا هذا الطرح معتمدين على دعم أميركي مُعلن يعزز مشروع التقسيم وهو أمر خطر، وغير مسموح به، ومن ثم فإن موسكو ليست مسؤولة عن ارتباطات هذه القيادات بالمشروع الأميركي مهما حاولت السيدة يوسف وغيرها تسويغ ذلك تحت عنوان: «إن العلاقة مع الأميركيين ليست عضوية» إنما «هناك تقاطع مصالح» وإن قراراتهم السياسية مستقلة! وهنا لا أفهم بالله عليكم ماذا يعني تقاطع المصالح مثلاً سوى أن واشنطن تريد التقسيم في سورية، والقادة الفطاحل في حزب الاتحاد الديمقراطي الميمون يريدون الهدف نفسه، وإن واشنطن لا تريد عودة الجيش العربي السوري، ومؤسسات الدولة إلى عفرين أو غيرها من المناطق، وإن واشنطن كان هدفها استخدام داعش للتقسيم، وكذلك يفعل هؤلاء الشيء نفسه إذ يطبلون ويزمرون بقضية داعش، ولكن الهدف هو الانفصال والتقسيم.

القضية ليست في العلاقة العضوية، أو في التسمية والتذاكي فيها، إنما ماذا يمكن أن نسمي تدفق السلاح والتدريب وتقوية الأذرع العسكرية، وتعزيز البنى الخاصة المرتبطة بالأميركيين؟ هل هذا تقاطع مصالح أم عمالة رخيصة مكشوفة؟

السيدة يوسف في المقابلة نفسها، حاولت نفي الارتباط بالخارج بالقول: «إنهم ليسوا جزءاً من الأهداف الأميركية، في احتواء إيران، وإسقاط النظام» و«هم مستقلون في قرارهم السياسي والعسكري…»، وانتبهوا هنا إلى قولها العبقري: «إن كل ما في الأمر أن النظام السوري، والقوى الإقليمية لم يستوعبوا ذلك»!
إنها معادلة رياضية صعبة على كل دول الإقليم، التي لا تفهم استقلالهم السياسي والعسكري، على الرغم من أن أي جندي أميركي يستطيع وقف الإمداد العسكري لميليشياتها، ورفع الدعم السياسي عنهم من دون أن نفهم من أين سيأتون بالدعم؟ هو مجرد عبث سياسي وتافه، ولا تعرف عن ماذا تتحدث، ولا كيف تسوغ الخيانة والعمالة، هذا هو الأمر باختصار شديد!

السيدة يوسف، تعود في الحديث ذاته لتناقض نفسها بالقول: «إنه حتى لو اتفق السوريون على الدولة المركزية فلا يعني أن هذا هو الحل» وإنها لن تقبل إعادة الدولة المركزية القومية!

إذاً: كل قصة الديمقراطية، والمظالم كذبة كبرى يتزينون بها لإخفاء الأهداف الحقيقية المتمثلة بالانفصال تدريجياً، والديمقراطية التي يكثرون الحديث عنها تعني احترام الأقلية لرأي الأكثرية، فكيف تريد السيدة يوسف، وغيرها أن تفرض على السوريين النموذج السياسي الذي تريد وترغب وتتوهم؟

يبدو لي أن هؤلاء لا يختلفون كثيراً عن معارضة الخارج التي أرادت بناء الديمقراطية في سورية من خلال عدوان عسكري يشنه حلف الناتو على بلدهم وشعبهم، وهؤلاء دعاة الانفصالية لا يختلفون كثيراً عن أولئك، فالأميركي هو المحرك والمشغل لهؤلاء وأولئك مهما حاولوا التلطي خلف الشعارات الثورية الكاذبة والمنافقة والمضللة، وإذا كنا نكرر ونقول «لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين»، فإن بعض السياسيين السوريين الأكراد وغيرهم سوف يلدغون ألف مرة من دون أن يتعظوا ويفهموا أن الصغار في لعبة الأمم الكبرى لا يقاطعون مصالحهم مع أحد، إنما يستخدمون كأدوات ثم يرمون إلى مزابل التاريخ من دون أن يذكرهم أحد، ومسعود بارزاني نموذج حيّ ماثل أمامكم.

وأخيراً: كي أكون أكثر وضوحاً، الخيانة لا دين ولا مذهب ولا قومية لها، إنما تؤشر إلى نفسها بوضوح شديد، ومن دون حاجة للتفسير والشرح، والوطنيون السوريون يقفون جميعاً ضد العدوان التركي، والاحتلال بكل أشكاله بما فيه الاحتلال الأميركي الذي لا يمكن أن نجد معه أي تقاطع مصالح كما زعمت السيدة يوسف التي على ما يبدو أنها تحتاج إلى درس في تاريخ سورية المعاصر، وإلى فهم عميق لوطنية السوريين الذين يقفون ضد الاحتلال بأشكاله كافة، وكذلك ضد الانفصالية التي تريد أن تخفيها تحت عباءة الديمقراطية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock