مقالات وآراء

هل تستعد تركيا للاستدارة الكبرى؟

عنوان هذا المقال هو سؤال كبير، ومحير بالنسبة للكثيرين في سورية، فهناك من يعتقد أن تركيا غير قادرة على الاستدارة الكبرى، أو أنها لا تريد، ولا ترغب في ذلك! وأصحاب هذا الرأي ينطلقون في تحليلهم من أن أميركا تتحكم بكل مفاصل القرار التركي، وأن تقارب تركيا مع إيران وروسيا هو تكتيكي لغايات آنية أو مرحلية، وسوف يتبدل بمجرد الحصول على إشارات أميركية! والحقيقة أن هذه المقاربة التقليدية تنبع من عدة اعتبارات:
1- بناء التحليل دون فهم المتغيرات داخل تركيا بعد محاولة الانقلاب في 15 تموز 2016، وقراءتها بشكل دقيق وصحيح وموضوعي.
2- ارتكاز هذا التحليل على كراهية الرئيس التركي رجب طيب أردوغان نتيجة سياساته الرعناء، والخاطئة تجاه سورية، وشعبها، والتي تركت جرحاً عميقاً ليس من السهل الشفاء منه بالبساطة التي يعتقدها البعض.
3- عدم قراءة التحولات في الموقف الأميركي، والغربي عموماً تجاه تركيا وأردوغان، ولماذا تحول أردوغان فجأة في الإعلام الغربي، وتصريحات كبار القادة الغربيين من ديمقراطي جداً إلى ديكتاتور لا تقبله المعايير الغربية؟
وأنا هنا لست بصدد الدفاع عن أردوغان، ولكني بصدد طرح أسئلة للتفكير والتمحيص للرأي العام السوري، ولكل متابع بمعنى آخر.
أطرح السؤال التالي: هل يمكن لنا أن نعتبر أن الغرب الذي حاربنا، ولا يزال يحاربنا، هو صديق لنا الآن لمجرد أنه يهاجم أردوغان! الجواب: بالتأكيد لا.
وإذا طرحنا سؤالاً آخر: هل يمكن اعتبار أردوغان صديقاً لنا لمجرد أن الغربي يهاجمه؟ الجواب: أيضاً- لا.

إذاً: ما الذي يجري بين أردوغان، والغرب حتى تحول التحالف إلى عداء مستحكم، وإلى اتهامات متبادلة بين الطرفين؟ ولماذا يحصل هذا التقارب الإيراني- التركي فجأة بشكل لم يسبق له مثيل؟ ثم لماذا هذا الصمت التركي تجاه ما يجري في سورية؟ أي إننا منذ أشهر لم نعد نسمع أي تصريح لمسؤول تركي معاد لدمشق، والرئيس الأسد. كما أننا بدأنا نلاحظ مقالات لافتة في الصحافة التركية تدعو لفتح أقنية الاتصال مع دمشق!

من الواضح تماماً أن تركيا التي استخدمت في الحرب على سورية وشعبها لإسقاط الدولة السورية، قد أتى دورها في الاستهداف، وأن أولئك الذين اعتقدوا أن سقوط سورية هو مسألة أشهر قد ذهبت رهاناتهم أدراج الرياح، وليس هذا الأمر فقط بل إن كل دول المنطقة كانت مستهدفة بالتقسيم والتفتيت، البعض استفاق وأدرك ذلك متأخراً مثل (تركيا)، والبعض الآخر لا يزال مغمى عليه ولم يفهم بعد مثل (السعودية).

ما يجري في الشمال السوري، وفي شمال العراق جعل الأتراك يتلمسون رؤوسهم فالهدف هو عزل تركيا عن عمقها في بلاد الشام عبر الكانتون الكردي لأول مرة منذ نهاية الحرب العالمية الأولى، وكذلك عزل سورية عن أوروبا عبر بوابتها التركية! ولا يقتصر الأمر على ذلك بل إن الهدف الآخر هو استخدام العنصر الكردي ضد إيران أيضاً- لاحقاً بهدف زعزعة استقرارها الداخلي، ومن ثم فإن استخدام الأكراد في شمال العراق وشمال سورية وجنوب شرق تركيا وغرب إيران يهدف لتفتيت دول المنطقة الكبرى، والمركزية أي (سورية، العراق، تركيا وإيران)، وخلق كيان جديد في قلب الدول الأربع موال لإسرائيل وأميركا، ويشكل تهديداً لأمن هذه الدول ووحدة أراضيها.

دعونا نقرّ أحببنا ذلك أم لم نحب، بأن ما يجري في الشمال السوري خطير جداً من حيث النشاط العسكري ومن حيث الممارسات غير المسؤولة ضد المواطنين السوريين من ميليشيات عنصرية، ومتطرفة تتلقى دعماً أميركياً وإسرائيلياً مكشوفاً، وعندما أقول ميليشيات لا أقصد الإخوة الأكراد المغلوب على أمرهم، والذين لا يستطيعون فتح أفواههم أمام تصرفات هذه المليشيات التي تقتل لمجرد إبداء الرأي والتي تقوي من وجودها بدعم أميركي مباشر وعلني.

تركيا تجد نفسها هنا في خطر وجودي، إذ يقول (إبراهيم قره غول) في صحيفة (بني شفق) بتاريخ 11/9/2017 إن التهديد الأكبر لتركيا سوف يأتي من شمال سورية، وإن إعلان البرازاني الاستفتاء في شمال العراق والإصرار عليه، إضافة إلى خريطة التحرك العسكرية للميليشيات الكردية في الشمال السوري هو جزء من مشروع واحد متعدد الجنسيات (إسرائيلي، بريطاني، أميركي) مع دعم بعض دول الخليج، وهذا المشروع حقيقي ويجري العمل على تطبيقه: والكرد هنا هم مجرد أداة!

لأن المشروع حسب ما يقول: يهدف لإعادة تصميم المنطقة ورسم خرائطها من جديد، وتحويل المنطقة إلى دويلات صغيرة، وكانتونات يمكن السيطرة عليها والتحكم بها، أي لا يريدون دولاً مركزية كبرى في هذه المنطقة.
إذا كان هذا هو الإحساس، والتحليل في أنقرة، وأعتقد الأمر كذلك في دمشق وطهران وبغداد، فما المطلوب عمله؟
بتقدير (قره غول) في مقاله المذكور، لابد من إدراك ما يلي:
1- الشركاء في هذا المشروع (العدوان) هم أعداء مشتركون لكل دول المنطقة.
2- لا يجوز استغباؤنا (كما يقول) مرة أخرى، واستخدام الخلافات والتناقضات والمشاكل الداخلية كحجة لتمرير المشروع، لأن ذلك سيكون خطأ سياسياً فادحاً.
3- على تركيا إعادة تقييم مواقفها تجاه سورية، ودراسة كل الخيارات بما فيها فتح الحوار المباشر مع دمشق.
4- على تركيا أن تبذل كل المحاولات لإبقاء التقارب قائماً بين سورية والعراق، لأن في ذلك مصلحة تركية.
5- اتباع كل الطرق للمصالحة بين المعارضة السورية والحكومة السورية.
6- لابد من التقارب بين دول المنطقة لمواجهة خطة العدوان الأميركية، وكل من يتعاون معها، ولا يجوز جعل المشاكل الحالية بين دول المنطقة مانعاً هذا التقارب.
تلك هي الأسباب التي تقف خلف الاستدارة التركية الكبرى التي لا يزال البعض يشكك فيها حتى الآن.

أرى أنه في ضوء هذه التطورات التي تجري على صعيد الشمال السوري وشمال العراق، والحماس الإسرائيلي المفضوح والمحرض على التقسيم والانفصال، إضافة إلى الدعم الغربي السري لهذا المشروع، فإن طهران أصبحت أكثر اقتناعاً بمخاطره وهو ما يفسر التقارب غير المسبوق مع أنقرة، بما في ذلك الزيارة النادرة لرئيس أركان الجيش الإيراني لتركيا ولقاؤه العلني مع أردوغان، كما أن سكوت أنقرة عن مشاركة الحشد الشعبي في معركة «تلعفر»، وكذلك وصول الجيش السوري المتوقع للحدود مع العراق بعد تحرير دير الزور، واستعداد أنقرة للتعاون ضد جبهة النصرة، والاتفاق على منطقة خفض التصعيد في إدلب يؤشر إلى تبدلات كبيرة في الموقف التركي.

يبقى السؤال الأساسي الذي لا يحب البعض طرحه وهو: هل دمشق مستعدة للحوار مع أنقرة إذا أبدت استعدادها لذلك؟
جوابي: وهذا رأي شخصي: نعم، ولكن بشروط منها:
1- وقف دعم الإرهاب وتنظيماته المختلفة.
2- خروج الجيش التركي من الأراضي السورية من دون قيد أو شرط.
3- تفكيك كل الميليشيات الإرهابية التي دعمتها تركيا.
4- التعاون في إخراج كل الإرهابيين الأجانب وإعادتهم لبلادهم.
5- الاعتذار الرسمي من سورية حكومة وشعباً عما ارتكب بحقهم خلال السنوات الماضية.

وإذا كان ملف العلاقات الثنائية معقداً وطويلاً، فإن المطلوب من تركيا أولاً إثبات حسن النيات عبر التعاون في مكافحة الإرهاب لتفكيك هذه التنظيمات التي زرعتها السياسة التركية خلال السنوات الماضية، لأن إعادة بناء جسور الثقة بين البلدين عملية شاقة ومعقدة وطويلة، وفيها الكثير مما يمكن الحديث عنه، لأن ما هُدم من جسور بين الشعبين والبلدين ترك آثاراً سلبية عميقة لدى السوريين، ويمكن لموسكو وطهران أن تساعدا في هذا الأمر وخاصة أن الدولة السورية تفكر دائماً بمصالح شعبها، وبكل ما يخفف ويحقن دماء السوريين، وينهي هذه الحرب المدمرة عليها، بعد أن اكتشف الأتراك مؤخراً أنها تستهدفهم أيضاً، أي إن المقصلة التي تحدث عنها الرئيس الأسد مؤخراً وصلت إلى رقاب الأتراك.
وهو ما يحتاج لاستدارة تركية كبرى، وهي حاصلة حتماً.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock