مقالات وآراء

الأبطال الحقيقيون وليس الافتراضيين

لا أستغرب كثيراً في هذه الأيام الحملة التي تُشن عبر وسائل التواصل الاجتماعي، والتي تهدأ قليلاً، ثم تعود مرة أخرى بـمواضيع شتى لجذب الانتباه نحو قضية مركزية أساسية يعمل عليها خصومنا وأعداؤنا، وهي تفكيك الحاضن الاجتماعي للدولة السورية بشكل تدريجي حتى مواعيد الاستحقاقات المهمة عامي 2020-2021، وهذا الأمر لا يخفيه الأعداء والخصوم، وتكتب عنه مراكز أبحاثهم ودراساتهم التي تصدر بين الفترة والأخرى، ونقرؤها بين السطور في تصريحات المسؤولين الغربيين، وحتى الإسرائيليين أن العمل لابد أن يتم على ذلك خلال السنتين القادمتين، ولذلك فإن الأمور ليست بريئة كما يبدو لكثيرين ممن ينجرون خلف بهرجة الإعلام الخليجي، أو تسويق بعض القصص التي لها أهداف وغايات، على مبدأ «كلمة حق يراد بها باطل».
قصة الطبيب السوري الذي جرى الحديث عن تكريمه في فرنسا، وبغض النظر عن ظروف سفره، وتخصصه الدقيق، وبراعته في الجراحة، ليس هو البطل الحقيقي بالنسبة لي، بل أرى أن علينا أن نوجه البوصلة نحو أبطالنا الحقيقيين الذين هم موجودون بيننا، وصمدوا وتحملوا كل المصاعب وقساوة الحرب الإجرامية على بلدنا وشعبنا، وهنا أود أن أسأل كل سوري بصراحة ووضوح شديدين، ماذا عن مئات الأطباء العسكريين المختصين الذين كانوا يصلون الليل بالنهار من أجل خدمة جيش بلدهم وشعبهم في النهاية، وتنهمر عليهم القذائف داخل المشافي العسكرية ويهددون بحياتهم، وحياة عائلاتهم؟ أليس هؤلاء هم أبطالاً حقيقيين وليسوا افتراضيين، بالله عليكم، ماذا عن مئات الكوادر الطبية من أطباء وممرضين وفنيين وعمال خدمات وسائقي سيارات إسعاف في المشافي الجامعية ومشافي وزارة الصحة السورية، الذين كانوا يعملون بجد وبصمت وبإخلاص لإنقاذ حياة آلاف السوريين سواء ممن تعرض لإجرام الإرهاب، أم لتقديم الخدمات الصحية المجانية التي لم تتوقف طوال هذه الحرب الإجرامية الفاشية علينا جميعا؟ أليس هؤلاء أبطالاً حقيقيين؟
ماذا عن عمال الكهرباء الذين استشهد منهم العشرات كي يبقى هذا القطاع يعمل، ويقدم الخدمة للمواطنين؟ هل يعرف أي منا حجم معاناة هؤلاء مثلاً؟ ومع ذلك ظلوا في أماكن عملهم، وعملوا في ظروف الخطر والإرهاب، ودفعوا حياتهم ثمناً من أجل الآخرين، والأمر نفسه بالنسبة لعمال ومهندسي قطاع النفط والغاز، الذين فيهم أيضاً عقول كانت تعمل، وأناس يضحون، أليسوا أبطالاً أيضاً ونحن لا نعرف كثيرين منهم؟
ماذا عن أساتذة المدارس والجامعات الذين لم يتوقفوا عن أداء واجباتهم في ظروف الإرهاب والقتل والإجرام والتهديد؟ ثم لأذكركم أن هناك مديرتي مدرسة في إدلب الحبيبة رفضتا تدريس منهاج تنظيم جبهة النصرة الإرهابي، فتم قطع رقبتيهما، وتعليقهما على أعمدة هناك، ولا أحد منا يذكرهما، فهاتان السيدتان هما النموذج البطولي الحقيقي الذي يجب أن يُخلد في ذاكرة الشعب والوطن.
ثم ماذا عن الموظفين في قطاعات الدولة المختلفة، وماذا عن عناصر الشرطة والأمن؟ وماذا عن عمال النظافة، وعن الفلاحين الذين كانوا يزرعون ويعملون من أجل أن نأكل؟ وماذا عن التجار والصناعيين؟ وماذا عن الإعلاميين والفنانين ورجال الدين الذين ضحوا واستشهد منهم زملاء أعزاء ومشايخ أجلاء؟
الأهم: ماذا عن هذا الجيش العظيم الذي قدم آلاف الشهداء من كبار ضباطه وصف ضباطه وجنوده، ومازال يقدم؟ وماذا عن الجرحى، ومصابي الحرب الكبار؟
أليس هؤلاء هم الأبطال الحقيقيين الذين يجب أن نكتب عنهم في كل يوم، ونبرز قصصهم في كل مكان ونقيم لهم التماثيل، والصروح التي تذكر ببطولاتهم لكي تتعلم منهم الأجيال القادمة معنى الوطن والوطنية والانتماء والإخلاص والوفاء؟
أكتب عن كل هؤلاء لأنهم هم الأبطال الحقيقيون وليس الافتراضيين، لأن تكاتف جهود وتضحيات كل هؤلاء الكل، وعلى رأسهم بالطبع الجيش البطل والقوات الرديفة، هو ما أوصلنا إلى هنا بعد كل هذا العناء والتعب والتضحيات الهائلة، والصبر الذي أبداه ويبديه السوريون على ما واجهوه ويواجهونه.
الحقيقة أن تركيزي على هذا الأمر مهم للغاية في هذه الفترة لأننا نجلد ذاتنا كثيراً، ويحاول البعض عن حسن نية أو عن سوء نية شيطنة كل شيء لدينا، وكأننا عابرون أو طارئون، فتتحول كل الصور السابقة التي تحدثت عنها، وهي صور حقيقية واقعية موجودة بيننا وتمثل أناساً من لحم ودم حولنا، وفي جوارنا وفي أسرتنا السورية الكبيرة، إلى صور منسية، لتحل محلها صوراً تُحضر لنا بديلاً منها.
هنا لابد من الإشارة إلى قضية مهمة وهو أن معالجة هجرة الكفاءات والعقول، مسألة أخرى لابد من التعاطي معها بجدية في المستقبل، ولكن في الوقت نفسه هناك كفاءات وعقول عاشت في البلد وقدمت الكثير وما تزال، وهذه من يجب تكريمها، أما تكريم الرئيس الفرنسي فلا يشرف أي سوري ولو كان مبدعاً، لأن ماكرون هذا وقبله العديد من قادة فرنسا، كانوا مشاركين في الحرب الإجرامية الكبرى على سورية وشعبها وكوادرها وثقافتها، وبقاء أي سوري من عدمه خيار له، هو يأخذه حيث يقتنع وحيث مصالحه وحيث يريد، ولكنه بالنسبة لي هؤلاء ليسوا أبطالاً حقيقيين مع كامل الاحترام لهم ولغيرهم، لأن أبسط فلاح زرع وحصد، وعامل جد وتعب، وجندي ضحى واستشهد، وجريح قدم أغلى ما لديه، هو بطلي الحقيقي الذي يجب أن أكتب عنه، وأخلده في ذاكرة الشباب والأجيال.
إن تناولي لهذا الموضوع في هذه الفترة أكثر من ضروري لملاحظتي، كما كثيرين، أن هناك مشاعر متضاربة لدى السوريين تجاه أي مسألة تطرح فنخلط بين الوطن والانتماء والجذور والتضحية والمشاعر، وبين الحكومة ومؤسساتها والخدمات.
الوطن أيها السوريون ليس فندقاً يقدم خدمات كما أشار الرئيس بشار الأسد ذات يوم، وإنما هو تضحية وعطاء وانتماء ووفاء على كل «عجر وبجر» ما لدينا ومشاكلنا التي تضغط علينا بشكل يومي، والتي سببها ماكرون ورفاقه، وممولي «إم بي سي» الذين أنفقوا المليارات من الدولارات على تدمير هذا الانتماء وهذه الجذور، ومحاولة استئصالها.
نقول لهم بوضوح شديد: هؤلاء هم أبطالنا الحقيقيون موجودون بيننا، من لحمنا ودمنا، من جامعاتنا، من معاملنا، ومزارعنا، ومساجدنا، وكنائسنا، هؤلاء هم من واجهوكم، وسيبقون يواجهون حتى انتصارنا الناجز. ولا يعتقد أحد أن أي سوري بطل، وهم بالملايين سيفرطون في الربع ساعة الأخيرة بما راكموه من ثبات وشجاعة وتضحيات هائلة، من خلال هجمات فيسبوكية أو أبطال وهميين، فهذا وطننا وصامدون فيه وسننتصر، وواهم من يعتقد غير ذلك.
خلال الندوة التي أقامتها قيادة حزب البعث في دار الأوبرا مؤخراً قال أحد المشاركين الأوروبيين: أنتم لستم بحاجتنا، نحن بحاجتكم كي نتعلم منكم كيف صمدتم وانتصرتم.
انتبهوا يا أبناء وطني، ولا تجلدوا ذاتكم كثيراً على كثرة مشاكلنا، فكل واحد صمد في هذا الوطن الأبي هو بطل حقيقي وليس فيسبوكياً.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock