العملة السورية الجديدة: بوابة استعادة السيادة النقدية وتعزيز الثقة الاقتصادية

ضمن قراءات “الوطن” للمشهد النقدي السوري الجديد، نستعرض رؤية تحليلية معمقة للباحث الأكاديمي د. عامر العبدالله حول أبعاد إطلاق العملة الجديدة واستعادة السيادة النقدية، حيث يرى أن إطلاق العملة السورية الجديدة في الأول من كانون الثاني/يناير 2026، كما أُعلن رسمياً، يمثّل لحظة فارقة في المسار الاقتصادي الوطني، لا باعتباره إجراءً نقدياً تقنياً محضاً، بل بوصفه قراراً سيادياً مركزيّاً تتقاطع عنده الأبعاد الاقتصادية مع السياسية والاجتماعية. فهذه الخطوة تشكّل مدخلاً حقيقياً لمرحلة جديدة تُطوى فيها صفحة طويلة من الاختلالات البنيوية التي أصابت النظام النقدي، وأفرغت العملة الوطنية تدريجياً من وظائفها الأساسية كنقد، وكأداة استقرار، وكعنوان للسيادة الاقتصادية.
لا بد من الإشارة هنا، إلى أن نجاح عملية استبدال العملة لا يُقاس فقط بجودة الأوراق النقدية أو قوة عناصر حمايتها الأمنية والتصميمية، بل بمدى قدرتها على استعادة الثقة العامة، وضمان استقرار أسعار السلع والخدمات، وحماية القوة الشرائية لوحدة النقد وحماية دخول ومدخرات المواطنين ورؤوس أموال المستثمرين والشركات من أن يلتهمها التضخم، وهذه الأهداف لا تتحقق تلقائياً بقرار الإصدار، بل تتطلب إطاراً مؤسسياً متكاملاً، وإدارة نقدية مهنية، وتنسيقاً صارماً بين السياسات الاقتصادية، إلى جانب إرادة سياسية واضحة تقطع مع ممارسات الماضي وتؤسس لنموذج مختلف في إدارة السياسة النقدية.
القطيعة مع إرث السياسة النقدية المشوّهة
لا يمكن للعملة الجديدة أن تؤدي دورها المنتظر ما لم تُقترن بقطيعة مؤسسية حقيقية مع النموذج النقدي الذي ساد لعقود على زمن النظام البائد، والذي اتّسم بالتسييس المفرط للسياسة النقدية، واللجوء المزمن إلى التمويل التضخمي للعجز، وانعدام استقلالية المصرف المركزي، ما أفضى في المحصلة إلى تراجع الثقة بالليرة السورية، وانكماش قدرتها على أداء وظائفها الأساسية كوسيط تبادل، ووحدة حساب، ومخزن للقيمة.
وعليه، فإن الهدف الأول لإطلاق العملة الجديدة يجب أن يتمثل في إعادة الاعتبار لوحدة النقد الوطني، بوصفها أداة سيادية تُدار وفق قواعد علمية ومهنية شفافة، وتخضع لمنطق الاستقرار الاقتصادي طويل الأجل، لا لمنطق الاستجابة الظرفية للضغوط السياسية أو المالية.
الثقة والقوة الشرائية: جوهر الإصلاح النقدي
تُعدّ الثقة بالنقود الركيزة الأساسية لأي نظام نقدي مستقر، وهي ثقة لا تُفرض بقرارات إدارية أو نصوص قانونية، بل تُبنى من خلال استقرار القيمة الفعلية للعملة، فالقوة الشرائية تمثل التعبير العملي عن ثقة المواطنين، والمؤشر الأصدق على فعالية السياسة النقدية.
من هنا، يجب أن يحتل الحفاظ على استقرار الأسعار موقع الصدارة في أهداف المصرف المركزي خلال المرحلة الانتقالية المقبلة، بوصفه شرطاً لازماً لحماية الدخول الحقيقية، وتعزيز شبكة الأمان الاجتماعي، واستعادة المصداقية الاقتصادية للدولة، وفي هذا الإطار فإن “قوة الإبراء القانونية” للنقود تكتسب بعداً عملياً لا شكلياً، إذ لا معنى لنقد لا يُقبل بثقة في تسوية الالتزامات تجاه الدائنين ، وهذا يقتضي ضمان أن تتمتع حتى أصغر فئة نقدية بقدرة فعلية على الإبراء، ما يمنع التشوهات في التعاملات اليومية ويعزز القبول العام للعملة.
إنهاء الدولرة واستعادة وظيفة النقد الوطني
لا يمكن الحديث عن سيادة نقدية مكتملة في ظل تفشي ظاهرة الدولرة في المعاملات الداخلية ، فاعتماد العملات الأجنبية مثل الدولارالأمريكي والليرة التركية كوسيط تبادل أو كمخزن للقيمة يعكس اختلالاً عميقاً في الثقة، ويُقيِّد قدرة المصرف المركزي على إدارة العرض النقدي والتأثير في المتغيرات الكلية.
لذلك فإن إنهاء الدولرة يجب أن يُطرح كهدف استراتيجي لمرحلة ما بعد إطلاق العملة الجديدة، من خلال حصر المعاملات الداخلية بالليرة السورية ومنع تداول العملات الأجنبية في السوق المحلي. غير أن هذا المسار لا يمكن أن ينجح بأسلوب قسري معزول عن الواقع الاقتصادي، بل ينبغي أن يتم تدريجياً، ومدعوماً باستقرار فعلي في سعر الصرف، وتوافر السلع والخدمات ودوران عجلة الإنتاج، وتحسّن ملموس في الدخول الحقيقية، ما يجعل العودة إلى العملة الوطنية خياراً اقتصادياً عقلانياً، لا مجرد التزام قانوني.
نظام سعر الصرف كرافعة للتعافي الاقتصادي
أعتقد بأن تبنّي سياسة سعر الصرف المدار في السنوات الأولى التي تلي إطلاق العملة الجديدة، تعتبر الخيار الأكثر اتساقاً مع متطلبات الاستقرار والواقعية الاقتصادية، فهي تتيح للمصرف المركزي هامشاً منظّماً للتدخل، يحدّ من التقلبات الحادة، ويمنح الاقتصاد فسحة زمنية لبدء استعادة قدراته الإنتاجية، وتحسين بيئة الأعمال، والتقدم في مسار التعافي، ولا سيما في ظل بدء تحسّن الظروف الخارجية ورفع العقوبات الاقتصادية.
ومع تحسّن المؤشرات الاقتصادية الكلية وتوافر مقومات الاستدامة، يصبح الانتقال التدريجي إلى نظام أكثر استقراراً لسعر الصرف أمراً ممكناً، شريطة أن يكون مدعوماً بأداء اقتصادي حقيقي، لا بتثبيت شكلي هش سرعان ما ينهار عند أول صدمة.
ضبط سوق الصيرفة واستعادة الانضباط النقدي
يشكّل ضبط سوق الصيرفة أحد الشروط الجوهرية لنجاح أي إصلاح نقدي، فانتشار الصرّافين غير المرخصين، وتحول الشوارع إلى منصات غير رسمية لتسعير العملة، يقوّض هيبة النقد الوطني، ويُضعف قدرة المصرف المركزي على إدارة السوق، وفتح الباب أمام المضاربات غير المنتجة.
وعليه، لا بد من حصر نشاط الصيرفة بالمؤسسات المرخصة رسمياً، وإخضاعها لإشراف صارم وتعليمات واضحة من المصرف المركزي، على غرار المصارف التجارية والمتخصصة، ما يعزز الشفافية، ويعيد الانضباط إلى سوق النقد.
الاحتياطي الأجنبي ودعم الاستقرار
تتطلب الإدارة الفعالة لسعر الصرف توافر حجم كافٍ من الاحتياطيات من القطع الأجنبي، يمكّن المصرف المركزي من استخدام أدواته النقدية ضمن هوامش تذبذب معقولة، وفي هذا السياق، يمكن للودائع المالية المقدمة من الدول الداعمة أن تسهم في تعزيز الثقة بالعملة الجديدة خلال المرحلة الانتقالية، شريطة أن تُستخدم كعامل دعم مؤقت، لا كبديل عن الإصلاحات البنيوية الداخلية أو كمصدر دائم للاستقرار المصطنع.
تناغم السياسة النقدية والمالية
لا يمكن تحقيق الاستقرار السعري بمعزل عن سياسة مالية منضبطة. فاستهداف التضخم، وضبط الكتلة النقدية، وحماية العملة الوطنية، كلها أهداف تتطلب تنسيقاً مؤسسياً عالياً بين المصرف المركزي الذي يرسم السياسة النقدية والحكومة التي ترسم السياسة المالية من خلال إدارة العجز، وترشيد الإنفاق العام، وتحسين كفاءة التحصيل، ما يمنع تحميل السياسة النقدية أعباء لا تقع ضمن نطاقها الطبيعي.
إضافة لذلك فإن إدارة الكتلة النقدية يرتبط بشكل مباشر بدرجة الثقة والاستقرار الاقتصادي، وفي هذا الإطار، تصبح إدارة الكتلة النقدية مسألة دقيقة، تتطلب توزيعاً متوازناً بين نقود المعاملات والاحتياط والمضاربة، ما يضمن توافر السيولة اللازمة للنشاط الاقتصادي، ويحول دون الاختناقات النقدية التي تضغط على الأسعار وترفع معدلات التضخم.
الخلاصة:
إن العملة الجديدة هي مشروع سيادي لا مجرد استبدال نقدي، وبالتالي لا ينبغي النظر إلى إطلاق العملة السورية الجديدة بوصفه عملية استبدال أوراق نقدية فحسب، بل باعتباره جزءاً من مشروع أوسع لإعادة بناء النظام المالي والمصرفي، وتحديث أدوات السياسة النقدية، وتعزيز الشفافية والمساءلة، وإطلاق حملات توعية اقتصادية تشرح للمواطنين أهداف هذه الخطوة وآلياتها.
فنجاح العملة الجديدة مرهون بقدرتها على حماية القوة الشرائية، وترسيخ الثقة بالنظام النقدي، واستعادة دور الدولة في إدارة الاقتصاد على أسس الحوكمة الرشيدة، ما يعيد الاعتبار للسيادة النقدية كركيزة أساسية للتعافي الاقتصادي والاستقرار الوطني.
الدكتور عامر العبدالله- أكاديمي وباحث اقتصادي في السياسات النقدية والاقتصاد الكلي- مسقط- سلطنة عُمان