مقالات وآراء

“المعتقد الجمعي وبناء الدولة: جوهر الغائب في نظريات النهوض والانهيار”

في نهاية كتابه “أصول النظام السياسي” الذي يتناول فيه جميع الأنظمة السياسية من حيث بنيتها وتطورها وانهيارها، يقف فرانسيس فوكوياما حائراً أمام سؤال ظاهري البساطة عميق التعقيد: لماذا تتقدم بعض الدول وتفشل أخرى رغم تشابه ظروفها الاقتصادية، الجغرافية، وحتى البنية السكانية؟ لقد قارن بين دول تحمل نفس الإرث الاستعماري، وتتشابه في الدخل والموارد والتهديدات، ولكنها تسلك مسارات مختلفة كلياً، ومع كل أدواته الأكاديمية لم يستطع أن يجيب إجابة حاسمة.

قد يكون ما غاب عن فوكوياما أو ما تجاهله ربما، هو أن الجواب ليس دائماً في نص القانون ولا في قوة المؤسسات ولا في شكل النظام السياسي، الجواب الأعمق والأكثر استعصاءً يكمن في (المعتقد الجمعي).
فالدولة ليست جسداً فقط بل إنها روح. وهذه الروح تصاغ بما يعتقده الناس، لا بما يكتب في الدساتير، إنما يكتب على الورق يظل حبراً حتى يتجسد في الوعي وفي السلوك وفي وجدان المجتمع.

المعتقد الجمعي هو الخيط الناظم لعلاقة الفرد بالمجتمع وبالدولة، إنه ما يجعل شخصاً ما يرمي ورقة القمامة في سلة المهملات دون وجود كاميرا، وما يدفع آخر ليرى في مخالفة القانون نوعاً من الذكاء والمراوغة، إنه ما يجعل الأول يرى في الدولة امتداداً له، وما يجعل الثاني يراها خصماً أو على الأقل كياناً غريباً لا يعنيه.

ولعل من أبرز تجليات هذا المعتقد، ما يختزل في مفاهيم مثل العرف والعادة. هذان ليسا مجرد سلوكين اجتماعيين، بل هما الجذور العميقة للمعتقدات، ما اعتاده الناس، ولو كان مخالفاً للدستور والقانون الطبيعي… يصير هو الحقيقة عندهم، وما ألفوه يصبح قانونهم الأسبق والأقوى، العرف حين يكون فاسداً لا يواجه الدولة فقط، بل يهزمها من الداخل لأنه يسكن نفوس رعاياها.

خذ مثلاً سلوك “الرشوة” حين يُعتقد أنها ليست عيباً، بل حيلة ذكية لتيسير الأمور، تصبح جزءاً من النسيج الاجتماعي، يقول أحدهم دون خجل “دفعت كم ليرة ومشيت الأمور” وكأنها بطولة تروى، أما حين تدرك الرشوة كفعل مشين، يتوارى صاحبها عنها، ويشعر بالخجل لا بالفخر. الرادع الحقيقي إذاً ليس القانون، بل ما يعتقده الناس عن الرشوة.

الأمر ذاته ينطبق على ما يعرف بالمحسوبية في مجتمعاتنا (منها سوريا) من الطبيعي أن يقوم المسؤول بجلب أقاربه وأصدقائه إلى مواقع الدولة الحساسة، لا باعتبار ذلك خيانة للأمانة، بل كواجب اجتماعي مبرر بمقولة “الأقربون أولى بالمعروف”. بينما يذكر الله تعالى في محكم تنزيله {ولو كان ذا قربى} .

أي إن المعتقد الجمعي يطغى حتى على المعتقد الديني. والمفارقة الكبرى تتجلى في أن معظم من ينتقد هذا السلوك، سيقوم بالمثل لو أتيحت له الفرصة، لأن المعتقد لم يتغير.

لكن، لو أدرك الناس أن وجود الشخص الأكفأ في المكان المناسب هو في مصلحتهم المباشرة، وأن ضعف الأداء في مؤسسة ما سينعكس على جودة تعليم أبنائهم أو توافر الخدمات الصحية أو حتى سلامة الطرقات التي يسيرون عليها، لقاتلوا من أجل ذلك الكفء، لا من أجل قريبهم غير المؤهل.

هنا تكمن الفجوة بين الدول المتقدمة وتلك التي تراوح مكانها…. الفجوة ليست في الثروات ولا في الأعداء ولا حتى في الماضي، بل في عمق هذا الإدراك الجمعي الذي يفضل المصلحة العامة على مصلحة العشيرة أو الطائفة أو العائلة. وفي تلك الدول، لا يحتفى بالتهرب الضريبي كفعل ذكي، بل تدفع من منطلق المنفعة والرادع الأخلاقي، لأن المواطن يؤمن بأن الضريبة التي يدفعها تعود إليه في البنى التحتية والمدارس والمستشفيات.

نعم… القوانين ضرورية، وهي قادرة على كبح الانحراف إلى حين. لكن حين يغيب الرادع الأخلاقي، يصبح القانون هشاً، وتفرغ العقوبة من معناها. القانون بلا معتقد جمعي مساند لا يبني عليه وطن، ولا تصان به دولة.

من هنا، فإن بناء الدولة لا يبدأ من المؤسسات فقط، بل من المعتقدات. من إدراك الناس أن ما يفعلونه في الخفاء، هو ما يصنع وجه دولتهم في العلن. وهذا التغيير الجذري، لا يحدث بالوعظ ولا بالقمع، بل بخطة تربوية وإعلامية وتشريعية متكاملة. تبدأ من المدرسة، تمر بالإعلام، وتُترجم في قوانين رادعة واضحة، لا تترك للخرق ثغرة ولا للمحسوبية منفذاً.
لكن حتى هذه الأدوات، تبقى مجرد وسائل إن لم تتحول إلى مطلب جماهيري. فالتغيير يبدأ من القاعدة، من الحاجة المجتمعية له، و لكن نجاحه مرهون بقدرة النخب على إقناع الناس أن بناء الدولة الحديثة لا يمكن أن يتم دون هدم المعتقدات المعوقة، وأن لا نهوض ممكناً ما دام العقل الجمعي مسكوناً بعادات تمنع الكفاءة وتبرر الانتهاك.

وهنا…. يكمن جوهر ما غاب عن فوكوياما، إذ بحث عن الجواب في النصوص والمؤسسات، بينما يكمن جوهر المسألة في المعتقد الجمعي الذي يصوغ سلوك الدولة والمجتمع.

“الثورة الحقيقية لا تتوج بسقوط الطغاة….بل حين يولد من ركامهم مجتمع يؤمن أن المصلحة العامة هي العقيدة العليا…وأن بناء الدولة يبدأ من ضمير الجماعة ومن اليقين المتجذر في أعماقهم”.

محمود صالح الناصيف

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock