مقالات وآراء

بهجة.. ولكن

بقلم: ضحى مهنا

من غرائب الحياة التي فوجئنا دائماً أن يتحوّل التقارب بين الناس إلى نفير ينذر بمرض رهيب يحمله فيروس لعين، وقد كان التقارب دائماً يوحي بالمحبة والدفء وراحة النفوس فهو من أكثر الروابط التي تشدّ الناس وتقوّيهم من دون كلفة تُذكر، لكن الأمر خطير وعلينا الاستماع إلى الأطباء فهم أولياء الأمر اليوم، ولعلَّ التكنولوجيا الحديثة تعوّض قليلاً أو كثيراً عن هذا التباعد القسري البارد، فكرتُ في هذا وأنا أتابع تقريراً لمراسل B.B.C وهو يصور أحد أسواق الشام. كان التقرير بعنوان (السوريون متمسكون بالعادات الرمضانية)، لم أهتم كثيراً بما كان يقوله المراسل؛ فما عرضت تلك القناة وأخواتها شيئاً عن سورية إلاَّ لتنال منها، وقدّرتُ بأنها ستتهم الدولة بالاستهتار بحياة مواطنيها حين سمحت لهم بالنزول إلى الأسواق من دون أن تخصص لكل منهم شرطياً يذكرهم بخطورة الفيروس!

كان السوق ساطعاً بالأنوار مزدحماً بالناس فعلَت الخشية والغضب لغياب الوعي رغم الوصايا العشر التي لا تنقطع عن القنوات الوطنية وغيرها والأخبار الأليمة من هنا وهنالك. ما رأيتُ بين أولئك المتسوقين المتكاتفين إلاَّ قلّة وضعت الكمامة، وتعاظم الخوف والغيظ ـــ مرت الكاميرا على الحلويات التي أبدع صانعوها في عرضها، وصورت الملابس المتباهية ومتاجر أخرى جذابة بهيّة.

ثم رجعت الكاميرا إلى الناس في سيرهم الحثيث فرأيت على وجوههم فرحاً صغيراً مشوباً بحزن رقيق وحيرة لا بد أنها بسبب الأسعار المتوحشة، وقد يسأل من تابع التقرير بخاصة في الخارج «ولكن مِن أين للسوريين المال والرغبة في الشراء وقد حملت أجنحة السوء أخبار الجوع واليأس بعد سنوات من حرب منهكة؟» فهل يكذّب تقرير المراسل أخبار القنوات التي لا تزال تحرّض على سورية وتثير الفتن من باب العطف وحده!!

تأملت المتسوقين وبهجتهم الناقصة، كانوا في لهفة ليحملوا الفرح لأولادهم ومن يحيط بهم، ولا أحسب أنهم كانوا يستمتعون أمام الأسعار المجنونة التي تقهر النفوس من دون أن يقرؤوا ربما شيئاً مما جاء به علماء النفس التجاري بأن التجوال في السوق والشراء يبهج القلب ويخلّصه من ضغوط الحياة الغليظة، وأجزم بأن هؤلاء لن يخرجوا من السوق بأفضل حال، بل سيزيدهم همّاً، لكنهم مضوّا إلى الاحتفال بالمناسبة المباركة، كانوا من الناس العاديين كما رأيتهم إنْ من خلال ملابسهم أو من حركات أجسادهم القلقة، ما كان هذا السوق للأثرياء الذين تأتيهم الحلوى والملابس والزهور إلى بيوتهم ويدفعون لحاملها الأثمان والبقشيش، أقول هذا من دون حسد أو عين ضيقة ولا اعتراض، فلستُ في مشكلة مع الأثرياء إلاَّ الوقح منهم والبليد، وليس هذا موضوعنا.. فقد تأكدت أن الحياة كانت دائماً على حالها هذه، وما كانت الأرض يوماً منبسطة أو مدوّرة، فثمة جبال وهضاب وسفوح ووديان وصحارى.

وعدتُ أتساءل عمّ دفع هؤلاء المتسوقين إلى المخاطرة. وتحدّي الوباء وسط الزحام؟ إذا أخذنا بعنوان تقرير B.B.C فهمْنا حرص السوريين على التمسك بالعادات الرمضانية المباركة، لكنني رأيت فيه أمراً آخر، إنها الطاقة الروحية التي تتمتّع بها بعض الشعوب ولا أحصرها في السوريين فقط، هذه الروحية التي تتحدّى النكبات وما تتركه من حزن ويأس قد يسقط شعب على وجهه لكنه ينهض ويتابع العيش مهما تكن أوصافه. وكان هذا أفضل ما تحلّى به السوريون، فأفشلوا خطط قادة الحروب الكثيرة وكان أفظعها محاولتهم زرع الضعف والإحباط في النفوس ليصيبها الإجهاد وغيره.

لم ينظر صانعو الحروب إلى الشمس كيف تشرق كل يوم ولا إلى المطر الذي يهطل كل حين في سورية، فيجد كلٌّ لقمة قد لا تكون مغمسة بالزبدة، لكنها كافية إلى حين اندحار العدوان، ربما تجاهل السفلة اللؤماء إبداع الناس وسط المآسي الشديدة ما عرفتْها المنطقة منذ دهر، أتذكر امرأة قالت مبتسمة صادقة يوماً للمراسل نفسه «لا نريد إلاَّ الأمان والسلام وأن ترجع سورية كما كانت!». فتطلّع المراسل إلى الكاميرا بعد أن أوقفت المرأة أو ألغت أسئلة أخرى.

لعله كان ينتظر منها أن تتأوه وتبكي حين سألها عن الأحوال وسط الأهوال، وربما بكت هذه المرأة على سورية في خلوتها، فالبكاء أمام اللؤماء غلطة كبيرة.

تخيلتُ أسرة وسط المتسوقين. تشتري لابنها الكبير بنطالاً ولأخيه قميصاً، وأما صغيرتها فنالت حذاء سارت به إلى الغيوم وإن كان من المطاط الرخيص. ولكن في العيد دائماً فيه حلو ولبْس جديد. حملت الأم من السوق أقراص القطايف المخبوزة على أن تحشوها في البيت قد لا تجد عندها الجوز والفستق الحلبي أو القشدة. فتكتفي الأم الكريمة المبدعة برشّة من قرفة وسكر وكثير من المحبة والحنان ثم تسكب فوقها دمعات من القطر. لقد بات الأولاد يفهمون ما يجري بعد أن سبقوا أعمارهم فتراجعت طلباتهم النزقة وتراخت. وراح الجميع يشكرون الله الكريم القدير، في هذه الليالي الفضيلة، على أن يبدّل الأحوال إذا لمس عند الناس هذه الروحية العظيمة.

أقدّر عالياً الاحتفال بالعيد وأصفّق طويلاً للنفوس القوية المبدعة لكنني أسعى إلى الالتزام بوصايا الأطباء فالصحة ينبغي أن تبقى تاجاً على الرؤوس.

سورية لن تيئس ولن تجوع ولن تختفي البهجة في العيد. ولن ينتهي الحديث عن سورية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock