مقالات وآراء

بهدوء.. عن الفشل الحكومي والوضعِ المعيشي ودعوات التظاهر: ثمن الصمود وثمن الخنوع!

مطلعَ السنةِ الحالية، هدَّدَ الرئيس الأميركي دونالد ترامب الأوروبيين كمنظومةٍ اقتصاديةٍ متكاملة بفرضِ رسومٍ جديدة على العديد من الصادراتِ الأوروبية إلى الولاياتِ المتحدة، بما فيها صناعةُ السياراتِ والمعادن بنسبٍ كبيرة تتراوحُ بين 20 و25 بالمئة. ترامب الذي كان منتشياً بوضعِ اللمساتِ الأخيرة على اتفاقِ التجارة مع الشريك الأكبر الصين، أرادَ لعبَ الورقة الأخيرة ضد الأوروبيين وهي ابتزازُهم بالاقتصادِ لتحصيلِ المكاسبِ في السياسة، وهي خطوة كانت سابقاً أشبهَ بخطٍّ أحمر لأي رئيسٍ أميركي يريدُ تطويعَ حلفاء بحجم الاتحاد الأوروبي. فعلياً لم تكَد تهديدات ترامب تخرج للعلنِ حتى أعلنت كل من فرنسا وألمانيا وبريطانيا تفعيلَ آليةَ حل الخلافات بشأن الاتفاق النووي مع إيران، في خطوةٍ وُصفت بأنها رد على عدمِ احترام إيران التزاماتِها بموجب الاتفاق النووي، ما يمهِّدُ عملياً لخطواتٍ أوسع قد لا تُبقي من الاتفاق إلا اسمه.
من الواجبِ هنا التذكير بأن الأوروبيين اعترفوا صراحةً بأن انسحاب الأميركيين من الاتفاق هو من أطاحَ بهِ، وأن ما تقومُ بهِ إيران حالياً لا يتعدى ردات الفعل، هذا ما يدفعنا للقول إن الأوروبيين عملياً خضعوا ببساطةٍ لتهديداتِ ترامب الاقتصادية وحذوا حذوهُ بالخروج لكن تدريجياً من الاتفاق، مقاربة تدفعنا للتساؤل: هل حقاً إن الاتحاد الأوروبي بطولهِ وعرضه غير قادرٍ أن يقف بوجهِ العقوبات الأميركية؟ الجواب ببساطة نعم، والقضية ليست مرتبطة بترهلِ الوضع الاقتصادي الأوروبي، بقدرِ ما هي مرتبطة بقوةِ الاقتصاد الأميركي المبني أساساً على نهب خيرات الشعوب والاستثمار في الفوضى، لكن هذا الكلام يقودنا للسؤال الأهم: إذا كان الاتحاد الأوروبي بما يمثل من قوة اقتصادية لم يستطع تجاهلَ تهديدات ترامب وعقوباته، فكيف صمدت دولة كسورية عدد سكانها لا يتعدى عدد سكان باريس، ودخلها السنوي قد لا يتعدى ما تنتجهُ هذهِ المدينة فقط من صناعةِ السياحة؟
تبدو هذهِ المقاربة مفيدة لاستخلاصِ العبَر ووضعِ النقاط على الحروف حولَ ما يتعلق بالوضع الاقتصادي في سورية، فالخدمات شبه معدومة، والمواطن ملَّ الشعارات والوعود، ولكي نلامِس الأسباب الحقيقية لوجعِ الناس، علينا أولاً الإجابة عن التساؤلاتِ التالية:
أولاً: هل من إخفاق حكومي؟
قد نستطيع القولَ إن هذا الفشل ظاهرٌ للعيان أكثر من أي نجاح، لكن في الوقت ذاته القضية هنا تشبه تحميلَ مدربِ الفريق أسباب الخسارة دون الأخذ بالحسبان أن ما من مدربٍ يريد أن يخسر. إن طرح مواضيع جوهرية من قبيلِ الفشل الحكومي يضيع بين طرفين، الطرف الأول يُبالغ بتوصيفاتهِ بتحميل الحكومة مسؤوليةَ كل شيء لدرجةٍ يكرر فيها شعارات يرفعها أعداء سورية من بينها مثلاً: «النظام السوري يتعمد تجويع شعبه»، هذا الكلام بصراحة لا يسمى رأياً، هي رداتُ فعلٍ غير منضبطة، فالقول هناك إخفاق شيء، والاعتقاد أن هناك تعمداً لهذا الفشل شيءٌ آخر تماماً. في المقلبِ الآخر هناك في الحكومةِ من يُبالغُ في تبرير كل الأخطاء لدرجةٍ بتنا فيها نتمنى عليهم ألا يصرحوا، لنأخذ مثالاً أزمةَ الغاز، حيث انتقل الكلام عنها من نفيها المتتالي، مروراً لاعتبار صور الطوابير مفبركة وصولاً إلى الاعترافِ بالأزمة، طيب لماذا لا يكون هناك مصارحة للشعب منذ الأساس بدلَ التبريرات الساذجة التي تزيد من فقدان الثقة بين المواطن والحكومة؟ أكثر من ذلك فالمواطن لا يمكنهُ أن يقتنع بأن هناك أزمة أو قلة موارد عندما يجد أن الغاز على البطاقة ليس متوفراً، لكنه ببساطة متوفر بكميات كبيرة في السوق السوداء، هنا يصبح الحديث عن الفساد، لكن من الذي يجب أن يحارب الفاسدين هل هي مسؤولية المواطن؟
ختاماً، أثبتَ مشروع البطاقة الذكية عملياً إخفاقه لأنه لم ينجح مطلقاُ بتحقيقِ المطلوب، إن كان بتقييد كميات الوقود المهرب لضخ المزيد من الكميات في السوق، أو لجهةِ خسارة مبالغَ طائلة من أجل تكاليف إدارة وإنشاء البطاقة، مع التذكيرِ هنا بالغيابِ شبه الكامل لمجلسِ الشعب، الذي كانت آخر إنجازاتهِ إقرار قانون نقابة الفنانين، فإن المشكلة ازدادت سوءاً.
ثانياً:هل التظاهر هو الحل؟!
مبدئياً، التظاهر حق يكفلهُ الدستور لكن من يريد أن يستشهد بالدستور فعليهِ ببساطةٍ ألا يأخذ فقط ما يناسبه. النقطة الثانية لا أحد في هذا العالم يحب المزادة والتنظير، على هذا الأساس ليسَ كل من يطالب بحقوقهِ ويكتب لينتقد انطلاقاً من وجعهِ هو عميل أو يفتقد الرجولة، لكن في الوقت ذاته عندما أرى أن مسؤولين أميركيين وإسرائيليين ومعارضين متورطين بالدم السوري يدعون الجميع للتظاهر هنا القضية لا تصبح «مزاودة»، هنا نحن أمام معطيات لا يمكن نكرانها، مع التذكير أن أولئك الذين يطالبون الشعب السوري بالخروج يهللون ليلَ نهار لـ«قانون قيصر» والعقوبات الأميركية التي تهدف لتجويع الشعب السوري، هناك معارضون سوريون يهللون لاحتلال الأميركيين حقول النفط، فهل عليَّ كمواطنٍ سوري أن أتجاهل كل هذا وأصفق لمن يريدون التظاهر بذريعةِ أنهم «موجوعون»؟
النقطة الثالثة إن التظاهر فكرة مبنية على هدف يسعى مجموعة منَ الأشخاص لتحقيقهِ فما الأهداف مثلاً؟ إن كان الهدف هو إسقاط الحكومة فالقضية بسيطة، إذا افترضنا أن الحكومة سقطت بالغد وكان لدينا مطلع الأحد القادم حكومة جديدة فما الذي سيتغير؟ هل أن الحكومة الجديدة ستذهب لتغرفَ من حقول نفط الجزيرة السورية المحتلة؟ لكن فيما يبدو الهدف أبعد من مجردِ حكومة.
ختاماً، إن الحديث عن الكرامة يدفعنا ببساطةٍ أن نسألَ عن مفهوم الكرامة وماذا تعني الكرامة لكل شخص؟ هناك من يرى أن كرامته ستُمَس إن خضع للأميركي الذي لم يكف طوال عقود عن القتل والإجرام، هناك من يرى بالكرامة تحويل المدن السورية إلى إقطاعيات تشبه إقطاعيات لبنان، فهل تستوي الكرامتان؟ بالتأكيد لا وأكبرَ دليلٍ على ذلك أن هذه الدعوات فشلت إلى الآن فشلاً ذريعاً، بل إن القيادة السياسية في سورية ترى بالدعمِ الشعبي لخيار الوقوف بوجه الأميركي أحد أبرز أسباب صمودِها، وربما قد تكون خيارات المواجهة القادمة أسوأ وعلى السوريين أن يجيبوا لا أحد غيرهم: هل تقبل بسورية من دون الجولان، وبكانتونات ممزقة أو دولة مركزية ذات سلطة متهالكة على الأقاليم مع استمرار الاحتلال الأميركي لحقول النفط على طريقة «النفط مقابل الغذاء العراقية» لتتخلص جزئياً من تبعات الوقوف بوجهِ الأميركي وغيره؟
لا داعي لانتظار الجواب، انظروا فقط لصور شهدائنا على امتداد الجغرافيا السورية لتعرفوا أن من كان الصمود بالنسبة له قراراً وليسَ خياراً، لن يتعب في اللحظات الحاسمة.
في الخلاصة، على الجميعِ، دولة وشعباً، أن يعوا فكرة أننا اليوم في زمنِ مواقع التواصل الاجتماعي، الزمن الذي يبدو فيه الخطأ الرسمي أو الشعبي أشبهَ بالكفر، في زمنٍ هناك من يؤرشف التصريحات ليستغلها في الوقت المناسب، في زمنٍ هناكَ من يستسهل الدماء الناتجة عن إيقاع الفتن. علينا جميعاً أن نعي فرضية أن الحرب لم تنته، والأميركي لم يتقهقر بعد واقتصاده ليسَ على شفا الانهيار كما نسمع منذ العام 2011، على العكس فهو يُمعن في هذا العالم وليس سورية فحسب، إجراماً ونهباً، لكن التجربة العملية أثبتت بما لا يدع مجالاً للشك أن ثمنَ الوقوف بوجهِ الأميركي، أقل بكثير من ثمن التحول إلى نعجةٍ في قطيعه، ولعلَ مثال الاتحاد الأوروبي الأخير قد يدعم هذهِ الفرضية، ومن يظن أن ثمنَ كل ما يجري هو خيار المقاومة الذي أسسته ورعته الدولة السورية فعليهِ ببساطةٍ أن يجيبنا: أين هي الدول التي وقَّعت اتفاقياتَ سلامٍ مع الكيان الصهيوني؟ هل باتَ اقتصادها كما سويسرا، أم إنها تحولت لدولٍ تعيشُ على المعونات وتستورد الغاز من إسرائيل؟ هؤلاء ينطبق عليهم المثل الشهير بتصرف: «لا أخذوا عنبَ الشام ولا فستق حلب»، على الأقل مازال بحوزتنا عنب الشام وندافعُ عن فستق حلب، بل إن بدايةَ النهاية لكل هذا الحصار الحاصل سيكون تحرير كامل حلب وريفها، ليس عن عبثٍ سميت يوماً بـ«أم الفقير»، وليس عن عبثٍ قيلَ يوماً: إن أردتم إسقاط النظام فعليكم بحلب، فتحريرها لن يساهم بعودةِ حركة الاقتصاد فحسب، لكنهُ سيجعل الجميع يتفرغونَ لما هو أبعد من حلب، ولا تخافوا على السوريين المحبين لوطنهم مهما علت آهاتهم نتيجةَ ضيقِ الحال، فهم أكثر من يدرك أن من عبرَ بحورَ الحصار والعدوان والفساد، لن يغرق في ساقية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock