العناوين الرئيسيةمقالات وآراء

ذاكرة القلب بين السياسة والشعر والقرآن

في الخطاب السياسي، لا تُقاس قوة القائد بقدرته على إدارة الأزمات فحسب، بل بقدرته على استدعاء المعاني الكبرى من التراث والوجدان الجمعي للأمة. وقد كان لافتًا ما جاء على لسان الرئيس السوري أحمد الشرع في القمة العربية الإسلامية التي انعقدت مؤخرًا في دولة قطر، حين استشهد ببيت للشاعر العربي عمرو بن براقة الهمداني:

مَتى تَجمَعِ القَلبَ الذَكِيَّ وَصارِماً

وَأنفاً أَبِيّاً تَجتَنِبكَ المَظالِمُ

هذا البيت البليغ يلخص فلسفة الانتصار في مواجهة التحديات: ثلاثة عناصر إذا ما اجتمعت، تحقق النصر والكرامة. أولها القلب الذكي، وثانيها السيف الصارم رمز القوة، وثالثها أنفاً أبياً أي الكبرياء وعزة النفس التي ترفض المذلة.

القلب… أكثر من مجرد مضخة

ما يثير التأمل في هذا البيت أن الشاعر قدّم القلب على السيف والأنف. وكأن لسان حاله يقول: إن الذكاء العاطفي، والبصيرة الداخلية، وذاكرة القلب، هي التي تحدد مسار القوة والكرامة. فالقلب ليس عضواً فسيولوجياً يضخ الدم وحسب، بل وعاء للإدراك والمعرفة والشعور.

القرآن الكريم أشار إلى هذه الحقيقة في قوله تعالى:

{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} [الحج: 46]. فالآية تؤكد أن العقل ليس حكرًا على الدماغ، بل أن القلب ذاته أداة للفهم والتدبر. إنها إشارة إلى أن للقلب ذاكرة خاصة به، ذاكرة تتجاوز المنطق البارد لتصل إلى عمق التجربة الإنسانية.

السياسة وبصيرة القلب

حين يستشهد الرئيس الشرع ببيت شعري من هذا النوع، فإنه يرسل رسالة مزدوجة. الأولى أن القيادة ليست حسابات القوة العسكرية وحدها، بل هي أيضاً بناء على الوعي والوجدان، وعلى إدراك ما تختزنه ذاكرة الأمة من آلام وآمال وتجارب. والثانية أن النهضة السياسية تحتاج إلى بوصلة قلبية، تحميها من الوقوع في المظالم أو الارتهان إلى القوة المجردة دون قيم.

ففي عالم تتصارع فيه المصالح الدولية، يصبح من السهل أن تنجرف الدول وراء لغة القوة وحدها. لكن استحضار القلب – بما يحمله من قيم – يذكّر الجميع أن السياسة بلا أخلاق تؤدي إلى الخراب.

الشعر والهوية الثقافية

ما قام به الرئيس الشرع ليس استشهاداً عابراً، بل هو استدعاء لذاكرة ثقافية متجذرة. الشعر العربي ظلّ قروناً طويلة ديوان العرب وحافظ حكمتهم وتجاربهم. والبيت الذي ألقاه عمرو بن براقة ليس مجرد نص أدبي، بل خلاصة تجربة أمة عرفت أن الانتصار لا يقوم على السيوف فقط، بل على اتحاد الذكاء القلبي مع القوة والعزة.

هنا تتجلى عظمة التراث العربي حين يوظَّف في الخطاب السياسي المعاصر، لأنه يربط بين الماضي والحاضر، ويُشعر المتلقي أن ما نواجهه اليوم ليس غريباً عن سيرتنا التاريخية.

القلب كذاكرة حيّة

العلم الحديث بدأ يثبت شيئًا لطالما أشار إليه القرآن والوجدان: أن القلب يمتلك شبكة عصبية خاصة، وأنه يتفاعل مع المشاعر والذكريات بشكل مباشر. ولهذا فإن ذاكرة القلب ليست تعبيراً شعرياً وحسب، بل حقيقة بيولوجية وروحية معاً.

ذاكرة القلب تحفظ الصدمات كما تحفظ الأفراح، وتوجه الإنسان نحو خياراته المصيرية. لذلك كان القلب الذكي – كما وصفه الشاعر – أساس النصر، لأنه يختزن التجربة ويمنح صاحبه البصيرة ليمـيز الطريق الصحيح من الزائف.

خاتمة

حين نربط بين بيت عمرو بن براقة، والآية القرآنية الكريمة، واستشهاد الرئيس الشرع بهما في محفل سياسي، ندرك أن الرسالة أعمق من مجرد زينة بلاغية. إنها دعوة لإعادة الاعتبار إلى القلب كأداة وعي وذاكرة، وإلى أن السياسة والأمة لا تنتصران إلا إذا جمعت بين:

  1. القلب الذكي: الوعي والبصيرة والذاكرة الحية.
  2. السيف الصارم: القوة والقدرة على الدفاع.
  3. وثالثها أنفاً أبياً: الكرامة ورفض المذلة.

إنها ثلاثية النصر التي لا يبلى أثرها بمرور الزمن، لأنها صادرة عن فطرة الإنسان وتجربة الأمم. ولعل استحضارها اليوم يفتح لنا بابًا للتفكير: كيف نبني مستقبلنا بذاكرة قلب تحفظ القيم، وبقوة تحمي السيادة، وبعزة ترفض الانكسار.

زر الذهاب إلى الأعلى
الوطن أون لاين
إغلاق

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock