مقالات وآراء

عملية مركز الشرطة في باريس: ضربةٌ تحتَ الحِزام أم قاتلٌ مجنون؟

تتميز الجريمة الجنائية تحديداً تلكَ المرتبطة بذيولٍ سياسية عن غيرِها من باقي الجرائِم أن ضررها قد يُصبح كتسربِ الغاز السام، قادراً أن يؤثر بحيّزٍ أبعدَ بكثيرٍ من مكانِ الجريمة، ويجعل الضحية أحد المتضررين فقط وليس المتضرر الوحيد.
خلال العقدينِ الماضيين صادفنا العديد من الأمثلة عن تلكَ الجرائم، كجريمة برجي التجارة في الولايات المتحدة الأميركية 2001 التي أدت إلى غزوِ دولٍ وتشريدِ شعوب، أما جريمةَ مقتل رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري والطريقة الإجرامية التي تمَّ بها إعدام الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين فكانتا الشرارة الأولى في هذا الشرقِ البائس لتعويمِ مصطلحِ «الحرب الطائفية» والتجهيزَ لكذبةِ ربيع الدم العربي، وغيرها من الأمثلة عن الجرائمِ المباشرة أو غير المباشرة.
يوم الخميس الماضي، ضجَّت المحطات الإخبارية العالمية بنبأ مقتل أربعة عناصر من الشرطة في مركزِ الشرطة الرئيسي بقلبِ العاصمة الفرنسية باريس. بدا الخبر في بادئ الأمر أشبهَ بالنكتةِ السمجة، فمن يعرِف العاصمة باريس عن قربٍ يدرك أن مركز الشرطة هذا يُعتبر أحد الحصون المنيعة التي يستحيل اختراقها أمنياً نظراً للأدوارِ الكبيرة المنوطة بهِ، منها مثلاً اعتباره المصب الأساس لمجملِ المعلومات المتعلقة بالمطلوبين والمجرمين ومن هم قيد المتابعة على كامل التراب الفرنسي، فكيفَ يدخل إليه مسلح بهيئةٍ سوبرمانية وبسكينٍ ليقتل أربعة من الشرطة بهذا الدم البارد؟!
طبعاً، وكما جرت العادة فإن كلَّ خبرٍ يحملُ طابعاً إجرامياً حتى لو كانَ لمشاجرةٍ أدت لوفاةِ أحد المتشاجرين، فإن هناك من يتطوع وبكلِّ اللغات ليُخرجَ عُقدَ نقصهِ ويصبَّ جامَ حقدهَ بشكلٍ مباشر أو غيرِ مباشر على الإسلام والمسلمين، حيث هرعَ هؤلاء للحديثِ عن فرضيةِ أن العمل الإرهابي من تدبيرِ شخصٍ مسلم يعمل في مركز الشرطة، ولأن الجريمة هذه المرة وقعت داخل المقر المحصَّن فلم يتمكنوا كما جرت العادة من الاستدلالَ بمقولة «الله أكبر» التي قالَها القاتل قبل تنفيذ جريمته، فاستعاضوا عنها بتأكيدِ معلومات الفكر الراديكالي الذي يمتلكهُ القاتل لأنه وحسب «مقربين» منه «لا يصافح زميلاتهُ في العمل»!
كان لافتاً هذه المرة أن الأخبار غير الموثوقة لم تبقَ حبيسةَ مواقع التواصل الاجتماعي، بل تعدتها لتشمل قنوات إخبارية تتمتع بمصداقيةٍ كبيرة لدى المتلقي الفرنسي، بعضها اعتذر ضمنياً عن تبني معلوماتٍ غيرَ مفلترة تتعلق بالحياة الشخصية للأفراد وهو ما يعتبر جريمة الكترونية بحد ذاتها، أما البعض الآخر فربطَ تبني هكذا معلوماتٍ بالحاجةِ إليها وسط ما تفرضهُ السلطات الفرنسية من تعتيم، إذاً لا مشكلة لديهم في تبني أي إشاعة طالما أنها تضمن لهم المزيد من المتابعة، لكن أياً كان فإن هذه القنوات وقعت في مطبين لم تعتد على الوقوع بهما:
المطب الأول، تمثلَ باستفحالِ حالة الغضب لدى الكثير من المحللين والصحفيين وحتى رجال السياسة الفرنسيين سواء أكانوا من جذور إسلامية أم لا للطريقة التي تم فيها التعاطي مع الحدث وعدم التمييز بين الإسلام والمتطرفين. هؤلاء لم يستكينوا هذا المرة في خانةِ الدفاع بل تعدوها لمرحلةِ الهجوم على سلوك العديد من الوسائل الإعلامية الفرنسية، لأن سلوكها بدا فعلياً أشبه بخطة مجترَّة ومكررة دون أن ينتبهوا أن معطيات الجريمة هذه المرة تختلف عن سابقاتها. بعضهم ذهب إلى القولِ إن ما يجري هو ردات فعل ليست مدروسة قد تودي بالمجتمع نحو الانفجار أما آخرون فقالوا إن من يريد أن يفهم الفرق بين الفكر الإرهابي والإسلام عليه أن يعي أن الدول القادرة على دعم الفكر الإرهابي ليست اليمن وليست السودان، هي فعلياً قطر والسعودية وتركيا.
المطب الثاني هو نشر معلوماتٍ تتعلق بطبيعةِ الجريمة والأدلة الافتراضية، إذ إن مدعي عام الجمهورية عادةً ما يفرض الكثير من التعتيم على نشرِ المعلومات المتعلقة بالتفاصيل الشخصية للقاتل أو الضحايا، تحديداً في الجرائم المركبة غير معروفة التفاصيل، فهي عملياً جريمة قتلٍ قامَ بها زميل لزملائه وفي مركزٍ أمني حساس، وهي تختلف في التعاطي معها عن الجريمة الإرهابية من النوع الكلاسيكي كالتفجير، أو هجوم على عناصر الشرطة والأمن.
ببساطة فإن وسائل الإعلام بنشرها كل ما يتعلق بالحياة الشخصية للقاتل جعلت هذه الجريمة إرهابية بصيغة الأمر الواقع، طالما أن القاتل قد اعتنق الإسلام وذبحَ إحدى ضحاياه ذبحاً ولا يصافح النساء فهي جريمة إرهابية، هذا بات من المسلمات حتى قبل أن تتم إحالة القضية رسمياً إلى نيابة مكافحة الإرهاب الفرنسية.
لكن مسار الأحداث في الساعات الأخيرة يجعل هذه الجريمة أياً كان توصيفها وكأنها وضعت السلطات الفرنسية في حالٍ لا تحسد عليه، بل نكاد نجزم أن هذا الوضع ربما لم تعشهُ هذه السلطات مع جرائم أشدَّ قسوة، إن كان لحادثِ «باتاكلان» في قلب باريس 2015 أو حادث الدهس في قلب مدينة نيس 2016، هذا التخبط يقودنا نحو الجزمِ بأن السلطات الفرنسية الآن أمام فرضيتين:
الفرضية الأولى أن تُفضي التحقيقات التي تسلمتها نيابة مكافحة الإرهاب رسمياً إلى فرضيةِ أن ما جرى هو عمل إرهابي فعلياً، لكن على السلطات الفرنسية هنا أن تقدّم الكثير من الإيضاحات حول الغموض الذي لفَّ هذه الحادثة، منها مثلاً:
كيف لرجلٍ اعتنقَ الإسلام منذ 18 شهراً فقط أن يصلَ لهذهِ الحالة من الشحن والتطرف وهو في هذه الوظيفة الحسّاسة دون علمِ السلطات؟ كيف تمت «هدايته» إلى الإسلام ألا يعني وصوله لهذا الحد من التطرف أن من بثهُ الشهادة يملك من التطرف ما يملكه هذا الإرهابي وأكثر؟ مع التذكيرِ هنا أن هناك معلومات تؤكد وجود نحو 17 شرطياً مصنفين كـ«راديكاليين»، لكن القانون الفرنسي لحسنِ حظهم لا يمتلك القاعدة القانونية اللازمة لإقالتهم أو اعتقالهم طالما أنهم لم يتسببوا بضررٍ، فهل أن حالةَ هذه القاتل مشابهة لهؤلاء؟
في سياقٍ متصلٍ فإن سلمنا أن نية أي عملٍ إرهابي هي القتل لمجرد القتل، والقاتل هنا يمتلك أساساً بطاقة عبورٍ عبر البوابة الرئيسية كموظف، هذا يعني أن إمكانية إلحاقهِ الأذى بعددٍ أكبر من الضحايا كانت واردة جداً فقط لو تم تبديل الأدوات، فلماذا لم يفعل واختار هؤلاءِ الأربعة فقط؟!
ختاماً، فإن القاتل وإن كان موظفاً في مركز الشرطة إلا أنه لا يعمل بوظيفة «شرطي»، لكن الأخطر أنه يعمل ومنذ العام 2003 بوظيفةِ خبير معلوماتية في قسم المعلومات المركزي التابع لمركز الشرطة، هذا يعني أن هذا الشخص ببساطة يمتلك إمكانية المرور إلى كل المعلومات الأمنية بما فيها تلكَ المُسجلة «سري للغاية»، أو غيرها من المعلومات العادية كأسماء المتعاملين المدنيين مع جهاز الشرطة أو من تجري متابعتهم للاشتباهِ بهم بجرائم متعلقة بالإرهاب أو التعاطي مع تنظيمات إرهابية تنشط في سورية والعراق، فهل لنا أن نتخيل المعلومات التي من الممكن أن يكون قد سربها القاتل للتنظيمات الإرهابية في حال لو كان فعلياً قام بما قام بهِ نتيجةً لجهودِ تنظيمٍ إرهابي كان على تواصلٍ معه وقام بتجنيده.
الفرضية الثانية، أن ما جرى لا يعدو كونهُ تصرفاً من إنسانٍ يعاني من ضغوطاتٍ وحالة نفسية صعبة لا أكثر ولا أقل، هذا الأمر تثبتهُ الوقائع والأدلة وشهادات من تعاطوا معه أنفسهم، فالقاتل عُرفَ عنه بسلوكهِ الجيد وتعاطيهِ الإنساني مع الجميع لكنه بذات الوقت كان يعاني من التنمر الذي يُمارَس عليهِ، إن كان للون بشرتهِ أو حتى لمعاناته مع ضعف السمع الذي ينخفض لأكثر من سبعين بالمئة، وهي مشكلة أخرت ترفيعهُ الوظيفي فقرَّر الرجل صبّ جام غضبهِ على مرؤوسيه.
يبدو هذا السيناريو الأقرب للواقع، وهو لا يزال ممكناً حتى بعد إعلان محكمة الإرهاب في فرنسا أنها هي من بدأت بدراسة الأدلة والتحقيقات في هذه القضية، إذ إن هذه المحكمة في النهاية تمتلك إمكانية الإعلان عن عدم كفاية الأدلة لتبني القضية من وجهة نظر إرهابية لينتهي هذا الكابوس الذي لابد وأنه يخضع للعناية الفائقة، كابوس أياً كانت نتائجهُ فإن هناك أثماناً ستُدفع، هل يكون وزير الداخلية الفرنسي هو كبش الفداء؟ ربما قد لا يكفي تحديداً أن هناك في المعارضة منذ الآن من رفع راية التحقيق مع جميع المسؤولين عبر لجنة برلمانية، وبمعنى آخر: قد تكون جريمة جنائية لا أكثر ولا أقل لكنها حكماً ودون أي رتوش ضربة تحت الحزام لمن لا يزال مستغرقاً بأحلامِ اليقظة، أو النوم في العسل، ولعل تشظيها سيكون أبعدَ بكثيرٍ من مجردِ أربع ضحايا ومركز أمني.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock