مقالات وآراء

عن الفراتِ الحزين وجحافل آخِرَ «الفاتحين»: كل شبرٍ سيعود.. سيعود

مَنْ معَ مَنْ؟ لم يعُد سؤالاً يثيرُ النكتةَ أو يزرع ابتسامةَ الألمِ على شفاهِ من كبِروا ومن راهَقوا ومن هرِموا زمن الحرب، كنا نظن أن هذا السؤال قادر ببساطة أن يوصِّف حجمَ الضياع الذي نعيشهُ في هذا الشرقِ البائس، لكن هل العالم الملتهب أساساً بحالٍ أفضل من حالنا؟
لكي نفهمَ ما يجري، علينا ببساطةٍ أن نستبدلَ دواة حبرِنا بماءٍ عذبٍ فراتٍ امتزج بدماءِ الأبرياء وخبزهم، فعلى تخومِ المقابر الجماعية يقفُ الرئيس التركي رجب طيب أردوغان كما وقفَ أجدادهُ من قبل في دولةِ الإجرام العثمانية ليغتسلوا بدماءِ ضحاياهم.
ليس المهم إن كان هذا الجيش يحمل زوراً اسم الجيش المُحمدي، وليس مهماً إن ابتدؤوا إجرامهم بالتعميةِ عليهِ عبر آي من الذكرِ الحكيم بتجسيدِ معاني «الفتح»، وهل نحن بالسذاجةِ التي كنا فيها نظن أن نسلَ الإجرام سيقرأ يوماً سورة التوبة أو آياتِ الغفران؟ هؤلاء لا يملكونَ حتى أن يتقربوا للإنسانية بذبيحةٍ من قبيل «رسائل الغفران» على الطريقةِ الأوبامية أو البوشية في تلاوةِ فعل الندامة، ثم هل كان فتحهم هذا هو المغالطة التاريخية الوحيدة في حياتنا؟ لماذا نتباكى من إجرامِ هذا الفتح ونحن عشنا لعقودٍ نتغنى بفتوحاتٍ لم تقلّ قباحةً وإجراماً عن ما فعلوهُ ويفعلونهُ؟
لكي نفهمَ ما يجري علينا ببساطةٍ أن نستبدلَ مفهومنا للسلام، القضية هنا ليست بإعطاءِ متورطٍ بدماءِ الصوماليين الأبرياء ورافع راية تعطيش مصر رئيس الوزراء الإثيوبي «آبي أحمد» جائزة نوبل للسلام، وهل كان الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما أفضل منه؟ لكن تخيلوا أن «ينابيعَ السلام» انفجرت قتلاً وتدميراً من صحراء الفكر المتأسلم لدرجةٍ طاف فيها الخابور بالماء، والدم. هناك من يقول لنا إنها مصيدة، وهناك من يقول لنا إنه فخ، دعكم من هذا كلِّه وسوِّقوا لأفخاخكم بعيداً عن قمحنا وترابنا، دعكم من هذا كله لأنكم ببساطة تبرؤون الجاني، لا بل الجُناة، وهل هناك من فرقٍ بين من وقعَ في فخِّ الإجرام ومن نصبَ له ذاك الفخ من لحم الأطفال وأمنياتهم؟!
ينبوع سلامهم هذا انفجرَ حتى أسقط الكثير من النظريات، أهمها نظرية إنك لن تشربَ من مياهِ النهر ذاتها مرتين، اسألوا هولاكو والحجاج، اسألوا أرطغرل ودققوا بإجرامهم لتتأكدوا أنهم جميعاً شربوا من المياه ذاتها، وأهم من يظنّ أنها ليست المياه ذاتها التي جعلنا منها كل شيءٍ حي، مياهٌ لا تحيا إلا بعناقِ النور لأننا لم نفجِّر يوماً إلا عيون السلام والمعرفة ليرتشفها بقلبهِ كلَّ ظمآنٍ، ولا يطأها كسارقٍ إلا الظلمة، وهل من ظلامٍ أدكنَ من ذاك الذي يقتل باسم الله؟!
لكي نفهمَ ما يجري علينا ببساطةٍ أن نتخيلَ حجم الألم الذي يعانيهِ من اعتادَ معاقرةَ الخمر، وفي سهرةِ ميلاده تحطمت زجاجة الفودكا الروسية على سجادتهِ الإيرانية، فعزّى نفسهُ بأن الفودكا لا تصلح للتائبين، تحديداً أولئك الذين يظنون أن اللـه لم يهدِ سواهم، فكيف وهم يظنونَ أن تركيا بإجرامها هي «قبلة المسلمين»؟ لتبقى لهم تلكَ السجادة الإيرانية عساها تتحولُ كبساط ريحٍ يحملهم إلى عاصمةِ الياسمين من جديد، هل حقاً أن سجادة عن سجادة تختلف؟ هنا علينا أن نعتذر من الراحل غسان كنفاني لنقول له:
خيمة عن خيمة «لا تفرق»، طالما أن الجزار واحد يتكرر في كل زمن، لكن تجار الخيام ليسوا متشابهين، والأهم هنا أن الدرس لم ينته:
«الإيرانيون لا يحبوننا، إنهم يريدون استخدامنا كجسرٍ لتحقيق مصالحهم»، تلكَ العبارة أطلقها يوماً المجرم مصطفى بارزاني ليعبرَ عن غضبهِ من الاتفاق الذي وقعهُ شاه إيران محمد رضا بهلوي مع الرئيس العراقي الراحل صدام حسين في العام 1975 برعاية الراحل الكبير هواري بومدين، يومها فهم بارزاني أن طموحات سرقة الأراضي في شمال العراق لبناءِ دولةٍ قد تلاشت ففتح بازار القوادة السياسية بالفرع الأهم إسرائيل علناً، بعد أن اقتصرت في السابق على زياراتٍ سرية كان يقوم بها ضابط المخابرات الإسرائيلي بهيئة دبلوماسي ديفيد كمحي.
اليوم لو أردنا استعادةَ مقولة بارزاني وسألنا السائرين على خطاه: من هو الذي يحبكم؟ هو ذاك الذي لا يراكم أكثر من بندقيةٍ للإيجار، وحده من يحبكم هو ذاك الذي يرى شراءكم أساساً مضيعة للمال، فكيف وهو يستأجركم بأموالكم؟!
ما أشبهَ اليومَ بالأمس، هل هناك فرق بين أحفاد المجرم بارزاني وأحفاد المجرم عبد اللـه أوجلان، إلا بالتبعية لإسرائيل لتكون هي الخاتمة لبازار القوادة على الأوطان التي احتضنتهم؟
على مستوى الاستيعاب: ربما هناك فرقٌ بسيط، فبارزاني فهمَ يومها الدرس، أما انفصاليو الشمال السوري فهم لم يفهموا لسببٍ بسيط أنهم دخلاء على هذه الأرض، ولو لم يكونوا كذلك لفهموا أن ما يجري يستهدفهم قبل أي أحد.
حتى المقارنة بينهم وبين التنظيمات الفيتنامية التي تعاملت مع الاحتلال الأميركي يوماً، تبدو ظالمة للفيتناميين، لأنهم كانوا أصحاب أرضٍ واختاروا طريقاً لتثبيتِ وجودهم في أرضهم بالتحالف مع أميركا، أما أضلاع أحداث «إسرائيل الشمال»، وهناك من كان ينزعج من هذه التسمية، ترى ما رأيهم الآن؟! فهؤلاء لا يبحثون عن شيء، شذاذ آفاقٍ فلا انتماء ولا ارتباط إلا بالموجود على الأرض، تخيلوا مثلاً أن هؤلاء لم يستوعبوا أن سجون داعش التي ظنوها أشبهَ بالدرعِ الواقي، ما يمنع أميركا من سحب حمايتها لهم، كانت أول أهداف الإجرام التركي، هذا يعني أن الأميركي لم يبعهم فحسب، لكنه في الوقت ذاته زرع لهم ألغاماً لا يعرفون متى ستنفجر بهم، هل هو الغباء؟ أبداً، هو أبعد ما يكون عن ذلك لأن من قادهم إلى هذا المصير هرب بأمواله وثرواته.
أما على مستوى التوظيف: فربما هناكَ نقطةَ تلاقٍ لابد من النظرِ إليها بدقةٍ لنعرفَ أن التاريخ يتكرر: في العام 1972 عقدَ شاه إيران والرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون ومستشار الأمن القومي هنري كيسنجر اجتماعاً أفضى إلى ضرورة الاستمرار في دعمِ قادة الانفصال في شمال العراق، كان العراق هدفاً وكان الانفصاليون هناك قابلين للبيع والشراء حسب الطلب، لكن الأميركيين انقلبوا على هذا الاتفاق بل وإن لجنة خاصة للاستخبارات في مجلس النواب الأميركي أصدرت تقريراً عُرف اختصاراً باسم «بايك»، وجهت فيهِ انتقادات حادة للإدارة الأميركية لتخليها عن الحلفاء في شمال العراق، وربما لولا الحرب العراقية الإيرانية وترهل النظام العراقي لاندفن حلم تلك الشرذمة إلى الأبد.
اليوم هناكَ فعلياً من يوجّه اللوم للإدارة الأميركية على ما فعلتهُ بأذنابها، لكن هل هناك أبرع من الإدارة الأميركية في تبرير التراجعات؟ هم فقط اعتبروا أنه ليس بإمكانهم مواجهة تركيا لأنها في النهاية ستكون مواجهة داخل الناتو، لكن علينا الانتباه إلى أن هذا التصريح يحمل في طياته خفايا على درجةٍ عالية من الأهمية: ماذا لو قرر الجيش العربي السوري الدخول في المعركة بدءاً من ريف البوكمال والاتجاه شمالاً؟ هل ستفعِّل الولايات المتحدة الأميركية تحالفها مع الانفصاليين؟
الجواب بسيط، لا، قرار الرئيس الأميركي بالتراجع والهروب من سورية لا رجعةَ فيه، أما عدم تفكير القيادة بزج الجيش العربي السوري في المعركة فيبدو أن أسبابه واضحة: المواجهة مع ميليشيا «قوات سورية الديمقراطية – قسد» لا تبدو عملياً في وقتها، تحديداً أنهم يصرون على رفض العودة إلى حضن الوطن ولو ضحوا بآلاف الأبرياء طالما أن طرقات هروبهم مؤمّنة، مع التأكيد هنا أن هذه المواجهة أن حدثت فستعني عملياً تقهقر هذه الميليشيا خلال ساعات.
لكي نفهمَ ما يجري علينا ببساطةٍ أن نعرفَ إننا مهما تحدثنا عن تقدم التفاهمات على المواجهة فإن المتضررين سيصرون على التشويش عليها، لكنها ببساطةٍ، الفترة الأصعب التي تسبِق تجسيدَ هذه التفاهمات لا أكثر ولا أقل، عندها يصبح السؤال، وماذا عن الأراضي التي يحتلها التركي؟ الجواب باختصار: هذا السؤال باتَ يثير الضحك أكثر من سؤالنا مَنْ معَ مَنْ؟ فمن قال يوماً إن كل إرهابي يتم قتله على الأرض السورية يعني رصاصةً بجسدِ مشروع تقسيم سورية، أراد أن يقول لكم ببساطة: احتلال عن احتلال لا يفرق، كل شبرٍ سيعود يعني سيعود، على العكس عندما يكون العدو واضحاً وخارجياً فالمعركة ستكون أسهل. واهم من يظن أن سورية لن تبقى موحدة، بل الواهِم أكثر كل من يظن أن السماء لن تثأرَ لدماءِ الأبرياء، وإن اختلفت الأدوات فالثأر قريبٌ قريب.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock