مقالات وآراء

قرار ترامب المشؤوم عندما يتحول التحدي إلى فرصة

شكل قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب باعتبار الجولان العربي السوري المحتل جزءاً من كيان الاحتلال الإسرائيلي ويخضع للسيادة الإسرائيلية، مفاجأةً للكثيرين، وصدمة لدى حلفاء الولايات المتحدة قبل خصومها لأسباب كثيرة وعديدة، ومنها الداخلي الأميركي المرتبط برغبة ترامب إعادة ترشيح نفسه لولاية رئاسية ثانية، وحاجته للوبي الصهيوني في الولايات المتحدة الذي دعمه، كما يدعم عادة المرشح الديمقراطي للرئاسة، فالصهاينة يوزعون قواهم بين المعسكرين في أميركا، ولذلك تجدون أن من كان يهاجم ترامب ومن معه هم من الطينة نفسها، أي الطينة الداعمة لكيان الاحتلال الإسرائيلي، وكان من اللافت للاهتمام أن تقرير المحقق موللر جرى تقديمه في توقيت مريب، وأعلن من خلاله تبرئة ترامب من التهم الموجهة له التي شغلوا بها الرأي العام الأميركي والعالمي منذ توليه الرئاسة لينتهي الأمر بإغلاق ملف ما سموه علاقة ترامب بالروس، وتدخل موسكو في الانتخابات الرئاسية الأميركية مقابل موضوع الجولان، وتقديمه ورقة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو قبل انتخابات نيسان القادم.
هذا جانب داخلي أميركي، وهناك تفاصيل كثيرة أخرى يمكن التحدث عنها في الداخل الأميركي، لكن القضية الأهم هي مقاربات إدارة ترامب نفسها للعلاقات الدولية، والنظام الدولي الذي تشعر من خلاله واشنطن أن الأمور بدأت تتغير ولو بشكل بطيء، وأن الدول بدأت تتأفف من سلوك ترامب، وإدارته وكأن العالم ملكه يتصرف به كما يريد، ويخرق القوانين الدولية، ويدوس على ميثاق الأمم المتحدة متى يشاء، الأمر الذي يضع العالم بأكمله أمام استحقاقات خطيرة، ذلك أن النظام الدولي الذي نشأ بعد نهاية الحرب العالمية الثانية بدأ يتداعى دون إيجاد بدائل وتفاهمات، وأسس جديدة متفق عليها بين القوى التقليدية التي يأفل نجمها، وبين القوى البازغة الجديدة.
هنا يجب ألا نستغرب مقاربة إدارة ترامب تجاه الكثير من القضايا أو الملفات الدولية، لأن لذلك بعداً أيديولوجياً أو بالأصح قناعات تقوم على البلطجة السياسية، ولو أخذنا مثلاً مستشار الأمن القومي الأميركي الحالي ذا الشاربين الغليظين جون بولتون، لوجدنا أن هذا الرجل الذي درس القانون في جامعة ييل الأميركية الشهيرة، وعمل في المحاماة، وكان معروفاً عنه أنه لا يحترم القانون بل يعمل على البحث عن كيفية التحايل على القانون، حتى إن أحد المفكرين السياسيين الأميركيين وصفه بأنه «يحلل الحرام ويحرم الحلال»، وبولتون هذا كان عضواً في المجلس الاستشاري للمعهد اليهودي لشؤون الأمن القومي، وكان داعماً قوياً لاحتلال العراق، ونفس الشيء نجده في معاداته لسورية وإيران وحزب الله.
نشر بولتون مقالاً عام 1997 في صحيفة «وول ستريت جورنال» تضمن نظرته للقانون الدولي، حيث اعتبر أن المعاهدات الدولية ليست قانوناً ملزماً للولايات المتحدة الأميركية، وأنها أي المعاهدات ليست سوى ترتيبات سياسية يمكن التحلل منها إلا في حال كانت هذه المعاهدات تحقق خدمة للمصالح الأميركية، وأما نظرته للأمم المتحدة فهي نظرة احتقار واشمئزاز خصوصاً أنه عندما كان سفيراً للولايات المتحدة في الأمم المتحدة كان يقول: «لا شيء اسمه الأمم المتحدة»، وقال في أحد الأيام: «لو اختفى من مبنى الأمم المتحدة في نيويورك عشرة طوابق من ثمانية وثلاثين طابقاً لما شعرت بذلك، وما تأثر الكون والعالم».
نظرة بولتون الذي يقود مع وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو قضايا السياسة الخارجية الأميركية، والأمن القومي تعكس حقيقة التعامل الأميركي الذي يظهره ترامب، أي إن القوة هي الأساس في العلاقات الدولية، وأن لعبة الأمم المتحدة كان يلعبها الجميع باعتبارها المسرح الوحيد المتاح أمام شعوب ودول العالم، ولا بديل منها حالياً، وبالتالي فإن كسر قواعد النظام الدولي دون الاتفاق على قواعد بديلة هي مسألة خطيرة للغاية ستؤدي للمزيد من الفوضى والاضطراب في العالم.
قلت في البداية إن قرار ترامب في موضوع الجولان المحتل صدم حلفاء أميركا أكثر من خصومها، وأوقعهم في اضطراب المواقف وأحرجهم، ولم يعد لديهم ماء وجه فقد سفح ترامب آبار مياه وجوههم دون أدنى احترام أو تشاور، ولذلك اضطر الجميع لأن يدين خطوة ترامب لكن واضح تماماً أنه «نوع من النفاق» لأن فرنسا مثلاً التي يداها غارقتان في دماء السوريين أدانت خطوة ترامب، لكنها تعمل على دعم مشروع آخر في شمال شرق سورية، أي بمعنى أن الحرص على وحدة سورية واستقلالها وسيادتها، وإدانة الاحتلال، واستخدام القوة في العلاقات الدولية لا يتجزأ، فكيف يمكن أن تكون مع القانون الدولي في حالة الجولان، وتقف مع الإرهاب، وداعمي مشاريع التقسيم في مكان آخر، والأمر يسري على دول أخرى في العالم بما فيها العرب وتركيا وغيرهم، لكن في كل الأحوال هذه الإدانات مطلوبة، ومفيدة لنا في معركتنا، ولكن يجب أن ينسجم هؤلاء مع ما يدعون أنها قناعات، ومبادئ لابد أن تحترم.
الآن: خطورة سياسات ترامب أنها وصلت إلى منح أرض سورية ليست ملكاً للولايات المتحدة، إلى كيان غاصب محتل بالأساس وهو ما يشبه وعد بلفور تماماً، أضف لذلك أن ترامب وإدارته وصل إلى مرحلة تعيين رئيس لبلد ذي سيادة هو فنزويلا، وتجميد أموال الحكومة، ومنحها لطرف آخر غير الحكومة الشرعية، وهكذا دواليك، ولأن الأمر خطير جداً بدأ الجميع يتحسس رؤوسه، إذ إنه ضمن هذا المسلسل يمكن لترامب أن يوقع قراراً يعتبر فيه أن جنوب شرق تركيا أرضاً للأكراد، ويمنحهم إياها! أو أن يقول إن لليهود «300 مليار دولار» لدى الدول العربية كتعويض عن عملية تهجيرهم لليهود من بيوتهم كما يدعي كيان الاحتلال الإسرائيلي، ويعد لذلك مشروع قرار سوف تدعمه الولايات المتحدة، أي إن أميركا سوف تجمد أموال الكثير من الدول العربية وتسطو عليها، وتعطيها لإسرائيل ضمن إطار سياسة البلطجة الحالية.
إذن: قرار ترامب على خطورته، وتداعياته أسقط ادعاءات أنصار التطبيع والتفاوض والسلام، ووضعهم في موقف لا يحسدون عليه لأن واشنطن تقول بوضوح شديد إنه حتى ما يسمى «السلام» مع كيان الاحتلال لا يمكن أن يتم إلا بشروط إسرائيلية، أي بالاستسلام الكامل والخضوع لما يريده المتطرفون الصهاينة، وليس أمامكم كما يقول ترامب إلا الاستسلام.
أعتقد أنه لم يسبق لرئيس أميركي أن قدم خدمة من حيث لا يدري لمحور المقاومة كما فعل ترامب ذلك أنه أثبت لنا بما لا يدع مجالاً للشك أن امتلاك عناصر القوة والاستمرار بخيار المقاومة هو الحل الوحيد لشعوب ودول المنطقة لاستعادة حقوقها المغتصبة، وأن مقولة الرئيس بشار الأسد من أن كلفة المقاومة أقل بكثير من كلفة الاستسلام هي عين الصواب، وتأتي مجمل التطورات لتثبت صوابية ودقة هذا التحليل وهذه القناعة، ذلك أن واشنطن وترامب لم يعد ينظر إلى ما كان يسمى حلفاؤه، أو بالأصح أتباعه إلا نظرة ازدراء واحتقار، وأنه على فرض سيذهب نحو التفاوض فإنه سيفاوض الأقوياء والأنداد، وليس الأتباع والضعفاء، وقضية الجولان وضمه، قضية مستمرة وهي قضية وطنية سورية ستبقى مستمرة مع استمرار الأجيال، فالراحل الكبير حافظ الأسد قال لـكلينتون خلال آخر جولة مفاوضات في جنيف: «لندع القضية للأجيال القادمة».
ما أود قوله إن قرار ترامب بقدر ما هو تحدٍ لا نستهين به، لكنه تحدٍ يمكن تحويله إلى فرصة تاريخية لتعزيز خيار المقاومة، كيف لا، والشعب السوري وجيشه وقيادته أثبتوا أنهم أسطورة، وأيقونة المقاومة في المنطقة والعالم، ومثل هذا الشعب البطل قادرٌ وجاهز لهذا الخيار لأنه لا بديل منه كما أرى.
إنه تحد، وعلينا أن نحوله إلى فرصة ولا فرصة أهم من قرار ترامب الأرعن والأحمق، لنؤكد صحة خياراتنا وسياساتنا، ولنرتب أوراقنا وأوراق الأجيال القادمة على هذا الأساس، وكل من يتحدث عن خيارات بديلة ليتفضل ويقنعنا كيف سيبلع ترامب توقيعه المشؤوم، وكيف يمكن لـنتنياهو أن يتحول إلى حمامة سلام أمام أتباع ومنبطيحين ومستسلمين!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock