مقالات وآراء

أنقذوا فنزويلا كي لا تبكوا على بوليفيا: روسيا وأميركا وصراع حافة الهاوية

هكذا نفَّذت الولايات المتحدة الأميركية وُعودها وأعلنت رسمياً انسحابها من معاهدةِ التخلص من الصواريخ متوسطة وقصيرة المدى مع روسيا، تلك المعاهدة التي صمدت لأكثرَ من ثلاثينَ عاماً، أنهت فيما يبدو حالَ الاستيعاب الأميركي لنهوض الفينيق الروسي من تحت الرماد السوفييتي.
ربما من السذاجةِ بمكان المسارعة للقول إن الانسحاب الأميركي من هذهِ المعاهدة هو عودةٌ لأسلوب الحرب الباردة وسباق التسلح بين الدولتين العظميين، أي قبل أن يوقِّع الرئيسان الأسبقان الأميركي دونالد ريغان والسوفييتي ميخائيل غورباتشوف الاتفاقية التي ألزمت كلا الدولتين العظميين تدميرَ أكثر من 2500 صاروخ تشملها المعاهدة، لأن الحرب الباردة بين الدولتين لم تتوقف إلا جزئياً وتحديداً في الفترة التي انهار فيها الاتحاد السوفييتي، وما تلاها من وراثة روسيِّة لإرثها السياسي بعهدِ الرئيس بوريس يلتسن، حتى وصلَ الرئيس الحالي فلاديمير بوتين إلى موقعِ القرار ورفعَ رايةَ النهوض الروسي من جديد، بما فيها إعادة تجديد كل ما يتعلق بالعتاد الروسي الذي يشكل صمامَ أمانٍ للدفاع عن روسيا، وحلفائها.
من هذا المنطلق بدا مصطلح «الحرب الباردة» أشبهَ بذرِّ الرماد في العيون للتعميةِ على سخونة الحرب التي قادتها الولايات المتحدة ولا تزال ضد أي محاولة لاستعادة الروس مكانتهم ومطاردتهم في كل الساحات وصولاً لساحات أصدقائهم وحلفائهم، إذ لا يمكن لنا أن ننكرَ مثلاً أن أشد المتفائلين بالقدرات الروسية ما كانوا ليتوقعوا أن تعود هذه الإمبراطورية للوقوف على قدميها من جديد، تحديداً أن الانقسام الذي عاشته الدولة عشية الانهيار كان خطراً وهو ما عبر عنه الرئيس ميخائيل غورباتشوف يوماً مبرراً سبب استقالته حينها بالقول: «الانقسام المجتمعي والصراع في بلد مثل هذا يعج بالأسلحة بما في ذلك أسلحة نووية، قد يتسبب في قتل الكثير من الناس ويُحدث دماراً هائلاً، والتنحي عن الحكم كان انتصاراً لي»، لكن العقلية الانهزامية التي عانى منها غورباتشوف وظنّها أعداء الروس وكأنها باتت سمة للطبقة السياسية التي ورثتهُ، كسرها الرئيس فلاديمير بوتين وعادت فكرة الصعود الروسي لتتحول إلى كابوسٍ يؤرقُ خصومه.
هذا الصعود الصاروخي كانَ في كل مرة يدفع لتبديل التكتيكات المتبعة من قبل خصومه الأميركيين تحديداً، فحاولوا جاهدين احتواءه بمسارين متلازمين:
المسار الأول وهو المسار الديبلوماسي، ولعل الانسحاب من هذه الاتفاقية وغيرها من الاتفاقيات يسمح للأميركيين عملياً بأخذ المزيد من الحرية التي يحتاجونها لتنفيذ طموحاتهم وفرض شروطهم، لكن ما هو أهم أن هذا الجانب قد يمنحهم فرصة لتوسيعِ الاستثمار بهذه الاتفاقيات عبر إعادة التفاوض عليها لا لتشمل المزيد من السلاح الذي لا تستطيع الولايات المتحدة مجابهته تكنولوجياً فحسب، بل ليشملَ المزيد من الدول التي لا تستطيع الولايات المتحدة مجاراتها اقتصادياً وعسكرياً، وبمعنى آخر: يبدو الانسحاب الأميركي من هذه الاتفاقية في الجانب الديبلوماسي فرصة لإعادة التفاوض عليها من منظور أوسع، باعتبار أن العين الأميركية اليوم هي على الصين تحديداً، فإن كان الأميركيون يرونَ في الروس عدواً تقليدياً فإن الصين كانت ولا تزال بالنسبةِ لهم ذاك العدو الغامض الذي يصعد ببطء، ولعل هذا ما يفسر الجهود التي قام بها الإعلام الأميركي لتبرير القرار الترامبي بالقول إن الاتفاقية لو شملت الصين أيضاً لتخلصت مما يعادل التسعين بالمئة من ترسانتها الصاروخية، تبدو النسبة كبيرة لكن حتى لو افترضنا أن الإعلام الأميركي معتادٌ على تضخيم الدعاية ضد خصومهِ فإن مجرد الحديث عن هذه الترسانة قد يشكِّل أرضية لما يريده الأميركي في الشق الديبلوماسي.
هذا المسار الديبلوماسي كان من المفترض أن يقابلهُ وبشكلٍ متوازٍ المسار العسكري كمسارٍ ثانٍ، لكن إصرار الولايات المتحدة ومنذ ما بعد غزو العراق على اتباعِ أسلوب الحرب الناعمة بدا معها استخدام كلمة «العسكري» قاصرة عن توضيحِ ما تريدهُ الولايات المتحدة من حمّامات الدم المتنقلة هنا وهناك، من اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري وصولاً لربيع الدم العربي ومحاولة حصار الروس بتجمعات الإرهابيين، هنا تبدو معها كلمة «المسار العملي» الذي يتبعه الأميركيون أشمل وأكثر دقة، فكيف ذلك؟
لقد كان الصعود الروسي بحاجةٍ لأرضية أو ساحة يتبلور فيها، هم فشلوا بتدارك الوضع الليبي، وربما لو أن الروس أرادوا أن يصارحوا أنفسهم لاعترفوا بأن خطأهم بترك ليبيا كساحةٍ تسرح فيها قطعان الناتو يجب ألا يتكرر، فكانت الساحة السورية، لكن في الوقت ذاته كان العقل الأميركي يسحب البساط من تحت الروسي في أماكن ثانية، وبمعنى آخر:
العمل على تفعيل المعارك الجانبية وانتهاج مبدأ قضم مناطق النفوذ الروسي، وهو عملياً ما جرى ويجري حالياً في القارة الأميركية الجنوبية، من تشيلي والأرجنتين إلى البرازيل وصولاً لفنزويلا، هكذا استطاعت الولايات المتحدة استعادةَ الكثير من النفوذ في أميركا الجنوبية، فمن كان يصدق أن الولايات المتحدة خسرت في العقدين الماضيين كل هذه الدول، لتعود أقوى بكثير، إذ يكفي فقط أن ندقق بأسماء الدول التي أيدت القرار الأميركي بعدم الاعتراف بشرعية الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو لنتحسر على أيام الرفيق لولا داسيلفا وكريستينا دي كيرشنر.
أما فنزويلا فهي المعضلة الجديدة المتجددة إذ تبدو القضية بالنسبةِ للأميركي أكبر بكثيرٍ من تصفيةِ حساباتٍ مع ما يسمونه «العهد التشافيزي» الذي أكمل مسيرتهُ الرئيس نيكولاس مادورو، كذلك الأمر تبدو القضية أبعد بكثيرٍ من فكرةِ الاستئثار بالنفط الفنزويلي، بل إن محاولةَ ربط كل الطموحات الأميركية أو حتى أبرزها بقضيةِ اللّهاث وراء الثروة النفطية أشبهَ بتقزيمٍ لما يريده الأميركي، هذا إن لم نقل أنه قصورٌ في فهم «عدوك»، القضية هنا تبدو بالإحكام على القرار السياسي، فإلى أي حدٍّ قد ينجح الأمر؟
ربما يبدو الوضع إلى الآن في فنزويلا مختلفاً عن البرازيل والأرجنتين، ففيهما كان وصول الأراغوزات الأميركية للحكم عبر الانتخابات، أي إن الشعب هو الذي قرّر بمحضِ إرادته وهنا علينا أن نحترم خيار الشعب، وبدلَ أن نلوم أميركا على ما كانت تخطط له في كلا البلدين تعالوا نسأل لماذا انفضَّ هذا الشعب من حول الذين أكملوا نهج داسيلفا أو كيرشنر! لكن بذات الوقت علينا ألا ننسى أن احترام خيارات الشعوب يجب ألا يكون انتقائياً، من ضمنه خيار الشعب الفنزويلي الذي أعاد انتخاب الرئيس نيكولاس مادورو، لكن الأميركي يصرُّ في معارك الدم المتنقلة على أسلوب اللصوصيةِ، وأياً كانت تسميتنا لما يجري هو عملياً صراع مع طواحين الهواء لأنه من الواضح أن الأميركي اليوم أخذ قراراً بفتح ساحة حربٍ جديدة، إلا إن كنا نظن أن الأميركيين تجاهلوا ما يعنيه خبر وصول القاذفتين الروسيتين العملاقتين «توـ 160» إلى مطار «سيمون بوليفار» قبل أسابيع، هذه الساحة الجديدة لن يستطيع إيقافها إلا الجيش والشعب الفنزويليان، لكن وبصورةٍ أشمل تبدو هذه المواجهة نزالاً جديداً يريده الأميركي لتعميق المسارين العملي والديبلوماسي للحفاظ على دور الشرطي في النظام العالمي القائم، فماذا ينتظرنا؟
في لقاءٍ لهُ قبلَ سنوات قال الرئيس السوفييتي السابق ميخائيل غورباتشوف عن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بأن السياسات الغربية تجاههُ ساهمت برفعِ شعبيته إلى 120 بالمئة، من هنا قد نفهم ما يريدهُ الأميركي وما لا يريده، فهو إن كان عملياً متمسكاً بالسيطرة على العالم فعليهِ أن يتخلص من العبء البوتيني، لكنهُ ببساطة مع كل محاولةٍ يصطدم بالعكس، فيتقوقع بالانسحاب من الاتفاقيات الدولية لدرجةٍ بات فيها السياسيون الأميركيون أنفسهم يحذرون من «عزلة» أميركا عن العالم، وبمعنى آخر: إن الانسحاب الأميركي من الاتفاقية ليكسب في السياسة، هو عملياً تكتيكٌ سيفشل به حكماً، أما فتح ساحات الصراع هنا وهناك فعلينا جدياً أن نكون أكثر حذراً بالتعاطي معه، لأن النجاح الأميركي في فنزويلا سيعني حكماً أن الأخبار العاجلة بعد أشهر ستكون عن بوليفيا إيفو موراليس، القضية ليست فقط بالوقوف بوجهِ الأميركي، القضية بمعالجة الأسباب التي أدت أساساً لولوج الأميركي إلى عقليةِ البعض من هذه الشعوب رغم كل الإجرام الذي يمارسه، واهمٌ من يظن أن للعدو شكلاً ومسمّى واحداً.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock