مقالات وآراء

أوروبا بين التقسيم الناعم والتمزيق بالإرهاب: علّوش أم علالشة؟

«لو بقيتَ تقاتل في سورية، لحافظتَ على لقبكَ كثائر، أما الآن فاعذرنا أنت إرهابي.. ولا نعلم أيهما الأكثر حمقاً، الحكومة التي دعمتك، أم الإعلام الذي يتبعها كيفما تشاء في التوصيف»؟ هذا الكلام البسيط كتبهُ بالأمس مواطنٌ فرنسي تعليقاً على خبرٍ يتعلق باعتقال السلطات الفرنسية للإرهابي، إسلام علوش، الناطق الرسمي السابق لعصابةِ «جيش الإسلام».
عبارةٌ ربما تختصر الكثيرَ من حالِ الصدمة التي أعقبت الإعلان الرسمي عن هذا الاعتقال، ليسَ فقط بسببِ الكشفِ عما يمتلكهُ هذا الإرهابي من سجلٍ حافلٍ في قتلِ وسحلِ المدنيين وترويعهم في حلب وريف دمشق، لكنه ضمنياً احتوى على صدمةٍ من نوعٍ آخر تتعلق بقدرةِ فرنسا الرسمية على الاستمرارِ باللعبِ على الحقائق حول ما يجري في سورية، وعدم الاكتراث لأمن المواطنين الفرنسيين خاصة، والأوروبيين عامةً، لتفتح الباب أمام تساؤلين أساسيين:
السؤال الأول: كيف وصل علوش إلى فرنسا؟
واقعيّاً قد لا يبدو مفاجئاً وصول الإرهابي، مجدي مصطفى نعمة، والملقب بـ«إسلام علوش» إلى فرنسا، تحديداً أن حركةَ نزوح اللاجئين التي كان النظام التركي يسهِّل مرورها إلى أوروبا كانَ أحد أهم أهدافها تمريرَ الكثير من الإرهابيين والمتطرفين، إما ليتخلص منهم النظام التركي، أو لاستخدامهم يوماً عندما تحينُ ساعة الصفر الأوروبية على طريقة تفجيرات «الباتاكلان» و«مطار بروكسل»، لكن المفاجئ فعلياً مما تسربَ من معلوماتٍ قليلة أن علوش وصل فرنسا عبرَ فيزا من فئةِ «إيراسموس»، وهي تُمنح فقط للطلاب الذين أنهوا السنة الدراسية الجامعية الأولى، ويرغبون في الدراسةِ في دولةٍ ثانية ضمن دولِ الاتحاد الأوروبي وبعض الدول كتركيا وسويسرا في إطار برنامجٍ للتبادل الطلابي، هنا قد نبدو فعلياً أمام أُحجية تنطلق من المقاربة التالية:
كيفَ حصل هذا الإرهابي وهو في العقدِ الثالث من العمر على فيزا كهذه؟ تحديداً أن هذا النوع من الفيزا تحتم وجود دولةٍ منحتهُ إياها، ودولة قبلت استضافتهُ أساساً بجامعاتها، هل تدخّلت إسرائيل في الأمر؟ فالمذكور كانَ يتمتع بعلاقاتٍ طيبة مع الإعلام الإسرائيلي، وهو كان يوماً ما ضيفاً بمقابلةٍ إعلامية معَ الناشطة الإسرائيلية إليزابت تسوركوف، عندما قالَ تصريحهُ الشهير بأن السلام بين الشعبين السوري والإسرائيلي سيتحقق حكماً بعد سقوطِ النظام، يومها أحرجت تصريحاته أطياف المعارضة المتطرفة فقرروا إقصاءهُ ليستقر بعدها في تركيا. أما إن كانت الفيزا مزورة وهو احتمالٌ شبه مستحيل، لأن التنقل بين دول الاتحاد الأوروبي يعتمد الرقابة على البصمة لا الأوراق والثبوتيات، فإن الكارثة تبدو مضاعفةً بشكلٍ أكبر، لأننا هنا نتحدث عن خرقٍ أمني على الأوروبيين ألا يكتفوا فقط بإعادةِ ترتيبِ أولوياتهم لمجابهتهِ، لكنهم في الوقت ذاته عليهم إعادة البحث فيما لم يظهر بعد: هل تورطت تركيا بنقل الكثير منَ «العلالشة» بهذهِ الطرق، لضمان وصول جيش أميركا السري إلى أوروبا؟
ربما كان على الصحفيين الألمان صفعَ المستشارةِ الألمانية أنجيلا ميركل على وجهها، عساها تستيقظُ من غيبوبتها عندما وقفت قبلَ أيام في حضرةِ راعي الإرهاب الأول في المنطقة رجب طيب أردوغان لتفاخرَ بإنجازاتهما كحكومتين على جميعِ الصعد بما فيها ما تسميه «الملف السوري»، ميركل التي كانت ولا تزال مستسلمة لسياسة الابتزاز التي يمارسها أردوغان كي لا تخسرَ داخلياً، لم تفهم بعد أن بدلَ العلوش هناك مئات العلالشة الذين يجوبون أوروبا حالياً بانتظارِ كلمات السر، لكن هذا الأمر قد لا يبدو فقط مسؤوليّة ألمانية، حتى فرنسا يجب أن تعرف أن الكيلَ بعشرين مكيال لن يحمي الشعب الفرنسي من خطرِ الإرهاب، لكن كيف سيتم ذلك وهم بالأساس لم يعُد بإمكانهم اتخاذ القرارات التي تنطلق من مصلحتهم؟
السؤال الثاني: ماذا تريد أميركا من أوروبا؟
في الحالةِ العادية، ليسَ من الخطأ السعي خلفَ الحقيقة، لكن الخطأ أن تكونَ الحقيقة أمامنا ولا نبادرَ لتلقفها، بل إن ما هو أسوأ من كلتا الحالتين أن تكون الحقيقةَ أمامنا لكننا مضطرون للقفزِ عنها فقط لأننا ببساطةٍ لسنا أحراراً. ربما هذا هو التوصيف الحقيقي للوضع الذي يعيشهُ ما تبقى من أوروبا هذه الأيام، وعندما نقول: ما تبقى، لأنه فعلياً لم يبق في الميدان إلا ألمانيا وفرنسا اللتان تتزاوجان تزاوجَ الضرورة لا أكثر، هؤلاءِ بدوا مستسلمين لخطاباتِ الحرية والديمقراطية وفي واقعِ الأمر هم مكبلون بالكذبِ والخداع واللامبدأ، يتحدثون عن الاحترامِ والسيادة، وهم في النهاية يتجاهلون حتى صفعاتِ الوضيع أردوغان، فكيفَ لهم أن يقفوا بوجه الصفعات الأميركية؟
غالباً ما تبدو أوروبا بوضعها الحالي بحاجةٍ إلى شارل ديغول جديد، لأن ما كان يحذر منه قبلَ عقودٍ بدأ يتحقق لكن بصورةٍ أسرعَ بكثيرٍ من المتوقع، كان ديغول يعلم تماماً أن الأميركي لا صديقَ لهُ فهو يريدُ تابعين لا أكثر، وما وصلت إليه الولايات المتحدة في طريقةِ تعاطيها مع الأوروبيين تجاوز مرحلةِ التابع بالتعاطي مع الطبقة السياسية الأوروبية، وصولاً لمرحلة المشاركة المباشرة أو غير المباشرة بما ينتظر هذه القارة من مآسٍ قد تكون عصية على الضبط. اليوم يبدو الوضع أكثر خطورة في ظل ما تعانيهِ المجتمعات الأوروبية أساساً من حالاتِ غليانٍ إن كان لملف الإسلاموفوبيا، أو ملف اللاجئين والاندماج، هذا الأمر يوحي لنا بتحول أوروبا بالكامل إلى يوغسلافيا سابقة عشية الحرب الأهلية التي مزقت وبرغبةٍ أميركية المشروع الأوروبي قبل ولادته في العام 1992.
ليسَ عبثاً أن هناك من شبَّه الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي بانسلاخ الكنيسة البروتستانتية عن أوروبا الكاثوليكية، لتدخلَ أوروبا بشكلٍ عام بعدها في حروبٍ دينية ومذهبية لا تتوقف، الأمر اليوم يبدو فيه الكثير من التشابه وإن حاول البعض تجميلهُ، لكن هؤلاء يتجاهلون أن حركةَ التاريخ لا تتوقف، فمن كان يصدق مثلاً أن التاج البريطاني الذي احتل يوماً الولايات المتحدة وكانت الشمس لا تغيب عنه، تقوقع حالياً في المحيط المائي وانسلخَ عن محيطه الجغرافي؟ من كان يصدق أن أوروبا سيأتي عليها يوم وتتساءل: ماذا سنفعل بالإسلام السياسي إن قررَ دخول الحياة السياسية وتشكيلَ أحزاب ودخول انتخابات؟ ولعلَّ مشكلة الإسلام السياسي ستبدو مستقبلاً رأس الجليد، لأن ما تحت هذا الإسلام السياسي مجموعاتٌ من المتطرفين يتم زرعهم تباعاً هنا وهناك بانتظار المشيئة الأميركية، وبدلَ قيام الأوروبيين بمصارحةِ شعوبهم عن الخطأ الكارثي الذي ارتكبوه بإشعالِ الشرق الأوسط خدمة للولايات المتحدة، يتلهونَ بالدعوات الببغاوية لإسقاط النظام السوري، أو سحبَ سلاح حزب الله، حتى «صفقة القرن» بدا الأوروبيون وكأنهم آخر من يعلم بها، فكيف نتوقع منهم معرفةَ ما تسربَ إليهم من إرهابيين؟
قد تبدو قضية إسلام علوش، فرصة لقيام الأوروبيين بمراجعةِ سياساتهم، لكنهم حكماً لا يقوون على ذلك تحديداً أن التساؤلات المنطقية ستكون عندها عصيَّة على الإجابة: هل سُيحاكم على جرائمهِ بقصف المدنيين؟ وهل سيتم نشر اعترافاتهِ تحديداً تلكَ المتعلقة بمصادرِ تمويلِ تنظيمهِ الإرهابي ودور تركيا فيما يجري؟
قد يفعلون ذلك بل وقد تكون القضية بشكلٍ عام عبارة عن ورقةٍ تريد فيها فرنسا إسكاتَ أردوغان في الملف الليبي، لكن الوقائع وللأسف لا تبشر بهذا النحو، فمعَ أوروبا الحالية نبدو كأننا أمام صورةٍ مشابهة لجامعة آل ثاني العربية، هل شاهدتم بالأمس اجتماع التكاذبِ المهم لوقوفهم بوجهِ «صفقةِ القرن»؟ فيما سفراء لدولهم كانوا حاضرين لإعلانها؟ في أوروبا الأمر ذاته، هناك من سيحاكم إرهابياً بتهمةِ جرائم حرب وبالوقت ذاته يصفق ويشيد بمن أرسلَ هذا الإرهابي، من قالَ إن الحرب على سورية ليسَ لها حسنات؟ فمن أهم حسناتها انكشافَ النفاق الأوروبي، إلا إن كانوا قد قرروا الاستيقاظ والسعي فعلياً لتفكيكِ شبكاتِ جيش الإرهابيين السري على أراضيهم، عندها أمامهم بابٌ واحد لا ثاني له، لكن مشكلةَ هذا الباب أنه موصدٌ بوجهِ المخادعين، لأنه ببساطة لا يقبل النزول لمستوى التجارة بدماءِ الأبرياء، وقبل أن يفكروا بقرعِ هذا الباب عليهم ببساطةٍ أن يجيبوا على تساؤل المواطن الفرنسي: «أيهما الأكثر حمقاً، هل الحكومة التي دعمتك، أم الإعلام الذي يتبعها كيفما تشاء في التوصيف»؟
الجواب واضح، وهو فقط بحاجة لأن يكون السياسي صادقاً مع نفسه، ومدافعاً عن مصلحةِ شعبه، وليذهب الباقي إلى الجحيم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock