الأوقاف السورية: ثروة مهملة بانتظار نهضة عادلة

بقلم عبدالله الدالي
من المفارقات المؤلمة في واقع الإدارة العامة السورية “على زمن النظام البائد”أن وزارة الأوقاف، والتي تمتلك واحدًا من أغنى الأصول العقارية في البلاد، تُعدّ من أفقر الوزارات على مستوى الأداء والموارد. وعلى الرغم من أن التقديرات تشير إلى أن قسم كبير من عقارات دمشق تعود ملكيتها لوزارة الأوقاف، فضلًا عن أملاك واسعة في حلب، وحماة، وحمص، فإن هذه الأصول لم توظّف يومًا لتحقيق النهضة المنشودة، لا دينيًا ولا مجتمعيًا.
لقد أوقف الناس منذ قرون هذه العقارات والأراضي في سبيل الخير، وعلى نية أن تُستثمر في وجوه البر والصلاح، ليكون لهم أجرها الجاري بعد مماتهم، كما هو منصوص عليه في الشريعة الإسلامية. غير أن النظام السابق مارس سيطرة ممنهجة على موارد الأوقاف، وقام بتوظيفها في مشاريع لا تمتّ لقيم الوقف بأي صلة، بل ربما تتناقض معها تمامًا. فتمّ حرمان وزارة الأوقاف نفسها من التصرف الحر في ممتلكاتها، وعُيّن على رأس إدارتها من لا كفاءة لهم ولا تقوى، فكان التفريط وضياع الحقوق هو النتيجة الحتمية.
فمثلاً هذا نموذج من الهدر والفساد : تُؤجَّر صالة وقفية في قلب العاصمة كان من الممكن أن تعود على الوزارة بما لا يقل عن 3,000 دولار شهريًا، بمبلغ لا يتجاوز 30 دولارًا فقط، بل وتُستخدم لأنشطة تتعارض مع قيم الوقف وأهدافه!
مثل هذه الممارسات لم تكن حالات فردية، بل كانت سياسة ممنهجة تنفذ عبر شبكات فساد تمكّنت من موارد الأوقاف لعقود.
التحديات الحالية والفرصة التاريخية:
اليوم، ومع انكشاف الغطاء عن هذا الواقع، تقف وزارة الأوقاف الحالية أمام تحدٍّ ثلاثي الأبعاد:
1. استرداد الحقوق المهدورة من خلال سبل قانونية شرعية، وبمساعدة خبراء في القانون العقاري والأوقاف.
2. إعادة هيكلة إدارة الأوقاف واستثمار أصولها بأساليب حديثة تحقق أعلى عائدات ممكنة.
3. توجيه الموارد إلى أولوياتها الشرعية الصحيحة بما ينسجم مع روح الوقف ومقاصده.
غير أن هذه التحديات ليست يسيرة، فيتوجب على الوزارة لتجاوز هذه التحديات الاستعانة بخبراء مختصين في القانون، والاستثمار، وإدارة الأملاك.
فالإدارة الرشيدة للأوقاف تقتضي تعاونًا بين الفقه والاقتصاد، بين العلم الشرعي والخبرة التنفيذية.
فعلى الرغم من الجهود المبذولة من قبل الأوقاف في استرداد الحقوق إلا أننا نرى أن هناك تقصير في إدارة هذه الأملاك. لذلك تحتاج الأوقاف لإعادة ترتيب الأولويات.
فمن القضايا الجديرة بالتأمل، أن أوقاف دمشق حصلت مؤخرًا على ما يقارب 300 ألف دولار كإيرادات، تم التبرع بـ80 ألفًا منها لصالح القطاع الصحي. ورغم أهمية هذا القطاع، إلا أن السؤال الجوهري هو: هل الصحة العامة أولى اليوم من دعم الكوادر الدعوية والتعليمية التي تعاني من فقر مدقع؟
ليس من المعقول أن تبادر الوزارة بدعم مؤسسات ذات موازنات كبيرة بينما يُترك أئمة المساجد يتقاضون رواتبهم من تبرعات المصلين، في مشهد لا يليق بمكانة الإمام ولا بموقعه في المجتمع.
هذا الخلل في الأولويات ينم عن ضعف في الإدارة الوقفية ورسم سلم الأولويات الأمثل.. لذلك وجب معالجة هذا الضعف ضمن خطة واضحة تُعيد البوصلة إلى الاتجاه الصحيح.
وبنفس السياق فإني أرى أن أولى أولويات اليوم ليس بناء المساجد وإن كان أمراً محموداً وضرورياً، “فنكتفي بترميمها”ولا دعم القطاعات الخدمية العامة، وإنما تكمن في بناء الإنسان، وصيانة كرامته، وتعزيز مكانته. فحين نرتقي بالمعلّمين، والخطباء، والدعاة، ونضمن لهم الكفاية والكرامة، فإننا نمهّد الطريق لنهضة فكرية وأخلاقية تعيد للمجتمع توازنه بعد سنوات من الانحلال والضياع.
الأوقاف اليوم ثروة حقيقية، لا تقلّ أهمية عن أي مورد طبيعي أو اقتصادي في البلاد. لكن الثروة لا تعني شيئًا دون إدارة رشيدة ومقاصد سليمة.
إن حسن استثمار الأوقاف وتوجيه مواردها بشكل عادل وهادف هو حجر الأساس في أي نهضة منشودة. وهذا ما يجب أن يكون على رأس أولويات وزارة الأوقاف، اليوم قبل الغد.