الاقتصاد السوري في مفترق الطرق.. استراتيجيات جريئة لإنقاذ الليرة

أوضح الدكتور ياسر المشعل، نائب عميد كلية الاقتصاد في جامعة دمشق، أن الوضع النقدي في سوريا بلغ مستوى من التعقيد لم يسبق له مثيل، فالليرة السورية فقدت أكثر من 26 ألفاً بالمئة من قيمتها خلال العقد الأخير، ما انعكس مباشرة على القوة الشرائية للمواطنين، ورفع تكاليف المعيشة إلى مستويات غير مسبوقة.
وقال المشعل في محاضرة ألقاها خلال الورشة التي عُقدت في كلية الاقتصاد بجامعة دمشق بالتعاون مع غرفة تجارة دمشق، بعنوان “استراتيجيات الإصلاح النقدي والاستقرار المالي في سوريا”: إن التضخم سجّل معدلات قياسية وصلت إلى 140 بالمئة في عام 2023، فيما لا تتجاوز الاحتياطيات الأجنبية 200 مليون دولار، وهو ما يضع المصرف المركزي في موقع عاجز عن التدخل الفعّال في سوق الصرف أو تمويل الواردات الأساسية.
وزاد من تفاقم الأزمة وجود فجوات سلبية في الطلب والاستهلاك، وتراجع القدرة التصديرية بفعل العقوبات وتدمير البنية التحتية، إضافة إلى ركود القطاع المصرفي الذي تراكمت فيه الودائع من دون أن تتحول إلى قروض إنتاجية.
استراتيجية إصلاح نقدي متكاملة
المشعل طرح رؤية إصلاحية ترتكز على استعادة الثقة بالليرة السورية باعتبارها حجر الزاوية لأي إصلاح نقدي ناجح، ويشمل ذلك وقف التمويل بالعجز الحكومي عبر طباعة النقود، وتعزيز الشفافية من خلال نشر البيانات الاقتصادية والنقدية بشكل منتظم، ومكافحة الفساد الذي يُقوّض الثقة بالمؤسسات ويُشجّع على التعامل بالعملات الأجنبية.
كما دعا إلى تطوير سوق صرف أجنبي مُنظّم وشفّاف يحدد سعر الصرف وفق قوى العرض والطلب.
في موازاة ذلك، شدد المشعل على أهمية دعم الإنتاج الحقيقي وتعزيز العرض الكلي من خلال توجيه التمويل نحو القطاعات الإنتاجية، ولا سيما الزراعة والصناعة، وإيجاد برامج ميسرة لتمويل المشاريع الصغيرة والمتوسطة، وتقديم حوافز حقيقية للصادرات بما يسهم في تأمين العملة الصعبة.
كما رأى أستاذ الاقتصاد أن تقليل الاعتماد على الاستيراد عبر دعم الصناعات المحلية يعدّ خطوة أساسية لتحسين ميزان المدفوعات.
أما في الجانب النقدي، فأكد ضرورة تبني سياسة مرنة تركز على إدارة الكتلة النقدية بدل الاعتماد على سعر الفائدة، مع تطوير أدوات حديثة للسياسة النقدية، إلى جانب السعي نحو تعاون دولي لرفع العقوبات وجذب الاستثمارات وإعادة دمج القطاع المصرفي السوري في النظام المالي العالمي.
خطة السياسة النقدية: مراحل متعاقبة
وضع المشعل خطة زمنية للإصلاح تمتد على ثلاث مراحل، تبدأ المرحلة الأولى بين عامي 2025 و2026 بهدف تحقيق الاستقرار والإنعاش عبر وقف طباعة النقود لتمويل العجز، وضبط الكتلة النقدية، ومكافحة المضاربة في سوق الصرف، إلى جانب دعم القطاع الزراعي وتطوير أنظمة الدفع الإلكتروني. أما المرحلة الثانية بين 2027 و2029 فتستند إلى التعافي والنمو من خلال توجيه التمويل للقطاعات الإنتاجية، وبناء احتياطيات أجنبية، وإصلاح القطاع المصرفي، ومحاولة دمج الاقتصاد غير الرسمي في القنوات الرسمية، مع اعتماد نظام سعر صرف أكثر مرونة. وتصل الخطة إلى مرحلتها الثالثة ما بين 2030 و2035، حيث يجري الانتقال إلى نظام استهداف التضخم كإطار للسياسة النقدية، وتطوير سوق مالية عميقة، وتعزيز استقلالية المصرف المركزي، وتوسيع قاعدة الشمول المالي من خلال أنظمة دفع رقمية متكاملة.
تغيير العملة وحذف الأصفار
توقّف المشعل عند خطة السلطات النقدية لحذف صفرين من العملة السورية في ديسمبر/ كانون ثاني 2025، مشيراً إلى أن الخطوة بحد ذاتها ليست أكثر من إجراء فني يسهّل التعاملات اليومية، لكنها لا تكفي لمعالجة جذور الأزمة ما لم تترافق مع إصلاحات شاملة. واستشهد بتجارب دولية مختلفة، حيث نجحت تركيا عام 2005 في حذف ستة أصفار من عملتها، بعد أن رافقت العملية إصلاحات اقتصادية وسياسية عميقة، في حين فشلت فنزويلا وزيمبابوي في محاولات متكررة لحذف الأصفار بسبب غياب الإصلاحات الحقيقية، الأمر الذي أدى إلى تضخم مفرط وانهيار كامل للثقة بالعملة.
من يتحمل مسؤولية التضخّم؟
ألقى المشعل الضوء على توزع المسؤوليات فيما يتعلق بالتضخم، مؤكداً أنه نتيجة مشتركة لعوامل داخلية وخارجية، فالحكومة خلال زمن النظام البائد تتحمل قسطاً كبيراً من المسؤولية بسبب تمويل إنفاقها من خلال الديون وطباعة النقود، فيما قصّر المصرف المركزي في إدارة الكتلة النقدية وتوجيهها نحو الإنتاج. أما القطاع الخاص، فقد اتجه في معظمه نحو المضاربة والتجارة غير الرسمية بدلاً من الاستثمار الإنتاجي، في حين ساهمت العقوبات الخارجية وتراجع القدرة التصديرية في شح العملة الأجنبية وارتفاع تكاليف الاستيراد، وهو ما انعكس مباشرة على أسعار السلع والخدمات.
سيناريوهات المستقبل
توقع المشعل ثلاثة سيناريوهات محتملة لتغيير العملة وحذف الأصفار. ففي السيناريو المتفائل، يمكن أن يستقر سعر الصرف بحلول 2026 مع انخفاض التضخم إلى أقل من 15%، إذا ما نُفذت الإصلاحات بشكل كامل. أما السيناريو المعتدل فيفترض تطبيق إصلاحات جزئية، ما قد يؤدي إلى تحسن تدريجي مع بقاء التضخم في حدود 25 إلى 30%. بينما السيناريو المتشائم، وهو الأخطر، يرتبط بفشل الإصلاحات، ليستمر التدهور النقدي ويظل التضخم عند مستويات مرتفعة، مع نمو اقتصادي ضعيف أو سلبي.
وأوضح أستاذ الاقتصاد أنه وفقاً لمعطيات الواقع الحالي فإنه يميل إلى توقع السيناريو المعتدل المائل إلى المتشائم، وإن كان لا يتمنى ذلك.
التحديات التي تواجه الإصلاح
أبرز المشعل جملة من التحديات التي قد تعيق الإصلاح، في مقدمتها غياب الإرادة السياسية أو التردد في وقف التمويل بالعجز، وضعف المؤسسات وانتشار الفساد (والذي لا تقتصر على الاختلاس والتلاعب المالي وإنما يشمل التقصير في أداء المهام وغيره من الممارسات الخاطئة..)، فضلاً عن استمرار العقوبات الاقتصادية والقيود على التجارة والوصول إلى الأسواق المالية الدولية. كما يشكل الوضع السياسي والأمني الهش عائقاً أمام استعادة الثقة، إلى جانب اتساع الاقتصاد غير الرسمي، وتدهور البنية التحتية، وهجرة الكفاءات.
واختتم المشعل عرضه بالتأكيد على مجموعة من التوصيات أبرزها ضرورة وقف التمويل النقدي للعجز الحكومي، وإدارة الكتلة النقدية بما يتناسب مع النمو الحقيقي، وتوجيه التمويل للقطاعات الإنتاجية، مع تعزيز الشفافية ومكافحة الفساد وتطوير سوق صرف أجنبي منظم. كما شدد على أهمية التنسيق بين السياسات المالية والنقدية، والسعي إلى تعاون دولي لتخفيف العقوبات، إلى جانب بناء القدرات المؤسسية وتعزيز الشمول المالي والتحول الرقمي.
ورأى المشعل أن استقرار الوضع النقدي في سوريا لا يمثل هدفاً نهائياً بحد ذاته، بل هو وسيلة لتحقيق تنمية اقتصادية مستدامة وتحسين مستوى معيشة المواطنين، مؤكداً أن رؤية 2030 لاقتصاد سوري مستقر ومتنوع ومرتبط إقليمياً ودولياً لن تتحقق إلا عبر إرادة سياسية حقيقية، وإصلاحات شاملة، وجهود سورية جدية لإعادة بناء الاقتصاد الوطني وإعادة الثقة بالعملة الوطنية.
محمد راكان مصطفى