مقالات وآراء

الانسحاب الأميركي من سورية: الخطط والبدائل

شكل إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب قراره سحب جنود الاحتلال الأميركي من سورية مفاجأة للكثيرين في سورية وخارجها، حيث كثرت التحليلات، والتقديرات التي تقف خلف هذا القرار، والحقيقة أن الأسباب الحقيقية وراء هذا الانسحاب هي التي تهمنا، وليس ما يحاول البعض تسويقه لنا من أن واشنطن اتخذت قرارها عن طيب خاطر، وأن بإمكانها البقاء لفترة أطول من دون أن تعير انتباهاً لأحد، أو من دون أن تأخذ بالاعتبار التحولات الميدانية الكبيرة التي أنجزها الجيش العربي السوري، والحلفاء خلال عام 2018 وقبله، وهي أحد أهم العوامل التي دفعت ترامب لاتخاذ قراره بالانسحاب على الرغم من معارضة البنتاغون الواضحة، والتي أطاحت برأسه أي وزير الدفاع جيمس ماتيس.
تفيد الدراسات التي تصدر في الولايات المتحدة الأميركية، والتي يُسرب جزء منها أن قرار الانسحاب كان مخططاً له، ولم يكن مفاجئاً حسب ما أفادت به «مجموعة الدراسات الأمنية» التي نشرت جزءاً من وثيقة سرية كانت قد أعدتها للبيت الأبيض في أوائل العام 2018، ونشرت نسخة عامة منها بتاريخ 8 نيسان 2018، وزودت الإدارة الأميركية بنسخة منها أكثر تفصيلاً حسب زعمها، وهي بعنوان «الانسحاب الأميركي من سورية لم يكن غير مخطط له: نشر الوثيقة السرية من مجموعة الدراسات الأمنية إلى البيت الأبيض»، وتفيد هذه الوثيقة بما يلي:
1- لم يكن قرار الرئيس ترامب سحب القوات الأميركية من سورية مفاجئاً فهو كان قد صرح أحياناً بإمكانية القيام بذلك، ولكن يبدو أن الإعلان قد أصاب بعض أفراد الأمن القومي بالصدمة، إلا أن التخطيط لاحتمال كهذا كان قائماً منذ فترة.
2- كان المخطط له أن يتم تسليح العشائر في تلك المنطقة، ليتحولوا إلى ميليشيات، وقوات شرطة كي يحموا أنفسهم، وأما القوات الكردية فسوف تستمر بحماية مناطقها، ويكون ذلك بالتعاون مع تركيا والسعودية والأردن، وحلفاء إقليميين آخرين لتوفير موارد، ومساعدة أمنية، والهدف منع إيران حسب الدراسة، من تثبيت جسر نحو البحر المتوسط.
3- إن أحد أهم دوافع الانسحاب حسب الدراسة الأميركية هو نقاط ضعف القوات الأميركية، التي تتمثل في:
توزع عناصر القوة الأميركية بشكل معزول بعضهم عن بعضهم الآخر في أماكن عدة، وتشاطرهم المناطق مع ميليشيات محلية لا يمكنها الصمود أمام أي هجوم منظم من السوريين وحلفائهم أو الأتراك، حتى تمركز القوات الأميركية في العراق هو في مناطق انتشار الحشد الشعبي العراقي الذي قد يستهدف مقارها في أي لحظة.
إن الوضع الراهن هو أكثر خطورة على القوات الأميركية من وجودها وانتشارها في العراق عام 2011 حيث كانت تمتلك قدرات عسكرية أكبر، وقواعد أمامية للدفاع عنها، أما اليوم فالوضع ليس كذلك، فهناك خطر الصدام مع الأتراك، وخطر القوات المدعومة من إيران، وقرار البقاء الأميركي ببساطة قد يقلب الموازين الميدانية لكن بكلفة ضحايا كبيرة بما في ذلك قوات العمليات الخاصة صعبة الاستبدال، التي تشكل قيمة أميركية إستراتيجية.
4- إن اقتراح إنشاء محمية لمجلس التعاون الخليجي يبدو قصير الأمد، إلا إذا قامت الولايات المتحدة بما هو ليس متوقعاً، واختارت تعزيز مواقعها هناك، وغير ذلك فإن دول الخليج لا تتطلع إلا إلى فرصة مختصرة، وحين بدء الانسحاب الأميركي ستخفض حماية انتشار جنودها إلى حد كبير، إضافة إلى أن وجود القوات المدعومة من إيران التي تساعد (الرئيس بشار) الأسد، سيقلص إمكانية الانخراط الخليجي.
ضمن إطار هذه الرؤية التي وضعها الخبراء الأميركان لإدارة ترامب كانت الخلاصة واضحة: «على الإدارة الاختيار بين الانسحاب من مكان لا يمكن الدفاع عنه، وبين تعزيز ذلك المكان كي يصبح ممكناً الدفاع عنه، وغير ذلك تكون القوات الأميركية المنتشرة في خطر الوقوع رهائن بيد العدو في أفضل الأحوال، أما في أسوئها فهي في خطر أن يتم تدميرها».
النقاط السابقة توضح بجلاء الدوافع الحقيقية وراء الانسحاب الأميركي من سورية فهو ليس مفاجئاً، إنما مخطط له بشكل مسبق، وتم اختبار الخطط البديلة التي يبدو أنها لن تنجح باستثناء ورقة واحدة تريد واشنطن بيعها لـتركيا، إذ يشير التقرير الأميركي إلى أن قرار ترامب «يرتبط جزئياً بمحاولة إعادة تقوية التحالف بين الولايات المتحدة وتركيا، بما في ذلك الإعلان عن صفقة أسلحة كبرى لتركيا بهدف إعادتها لدورها السابق كطرف قوي في حلف شمال الأطلسي «الناتو» وإخراجها من الفلك الروسي الإيراني، وقد يتضمن ذلك قيام تركيا بتوفير المساعدة الأمنية في شمالي سورية وإعادة فتح الحدود للتجارة مع المناطق الغنية بالموارد في تلك الجهة».
ترى الدراسة الأميركية أن انسحاب القوات الأميركية يخلق تحديات، ولكنه يخلق الفرص أيضاً، لكن الأهم عدم السماح لإيران باستغلال ذلك، وجعل استمرار بقائها في سورية مكلفاً جداً بكل الوسائل المتاحة، مع العمل على حصول «حلفائنا الأكراد» على بعض الحكم الذاتي والحرية في جميع الدول التي يعيشون فيها حالياً، وعلينا القيام بكل ما في وسعنا لتقريب تركيا من حلفائها الحقيقيين!
لقد تقصدت أن أنشر تفاصيل هذه الدراسة لإطلاع الرأي العام السوري على الخلفيات الحقيقية للانسحاب الأميركي من سورية التي يمكن إجمالها بأنها حصيلة صمود الشعب السوري، وجيشه البطل، ودعم الحلفاء، وليست ناجمة عن الإلهام الذي هبط على الرئيس ترامب، وأركان إدارته، فلولا التقدم الميداني الكبير، وتحولاته لما اتخذ ترامب قراره هذا، ولوجدنا عتاة البنتاغون مستمرين في مواقفهم، وأميركا أصبحت بين خيارين بعد سقوط أدواتها الإرهابية الفاشية، إما مزيد من الانخراط العسكري الأميركي لحماية ما تبقى من قوات، وإما الانسحاب، وإعلان الهزيمة العسكرية، وهو ما حصل، ويبقى الأمر الآن بيد تركيا التي عليها أن تختار بين انخراطها العسكري للقضاء على ما تسميه «منظمات إرهابية كردية» وهو ما قد يعني استنزافاً لجيشها وقواتها، وأعباء اقتصادية كبيرة، وبين التنسيق مع دمشق كما نصح بذلك وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف، أما أصحاب الأوهام من ما يسمى «إدارة ذاتية» فعليهم إما الذهاب إلى الدولة السورية، والقبول بالخيارات الوطنية السورية من دون الرهان على أي أحد، وإما تكرار تجربة عفرين التي تبين فيها أنهم مجرد مراهقين سياسيين ليسوا أهلاً لقيادة بلدية.
النقطة الأخيرة والمهمة: أن واشنطن بانسحابها لن توقف جهودها المبذولة لتحقيق أهداف أميركية أخرى في سورية أبداً، إنما ستستمر باستخدام أشكال أخرى من القوة الأميركية، وبمساعدة الحلفاء! «حسب الدراسة الأميركية»، وهو ما يشير إلى أن الهزيمة العسكرية لمخططات واشنطن لا تعني توقفها عن استهداف سورية، إنما سيتم الانتقال إلى مرحلة القوة الناعمة، وهو ما يجب الانتباه له في المرحلة القادمة، فالحديث حسب وسائل إعلام مختلفة أن وكالة التنمية الأميركية «يو اس إيد- USAID» تبحث عن مؤسسات بحثية لدراسة الواقع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي في سورية، والتحضير لانتخابات الرئاسة عام 2021، والهدف ما يسمونه البيئة الحاضنة للدولة هذه المرة، ولذلك علينا الارتقاء بالأداء الخدمي والاجتماعي والاقتصادي والسياسي، وعدم المجاملة في أي إهمال، أو تقاعس من مسؤول أو مؤسسة حكومية لأننا تحت المجهر، وأي تقصير مقصود أو بدافع مصالح ضيقة يجب أن يحاسب بكل قسوة، وبلا مهادنة، فمستقبلنا في أيدينا، وأعداؤنا سيستمرون باستهدافنا، ومن العار علينا أن نسمح لهم بعد هذه التضحيات الهائلة أن يلعبوا بأي أوراق داخلية لاستهدافنا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock