التمويل… كلمة السر في إعادة الإعمار

بينما تشخص الأبصار نحو المخططات الهندسية والخرائط العمرانية في التجهيز لمرحلة إعادة الإعمار، يبرز “التمويل العقاري” كحلقة مفقودة تشلُّ حركة البناء وتجمد طموحات التوسع. ففي غياب المؤسسات المالية القادرة على ضخ الحياة في الشرايين العمرانية، يتحول المسكن من ملاذٍ آمن للأسر إلى “صنم استثماري” للمقتدرين فقط، مما يترك عملية إعادة الإعمار رهينةً لمبادرات فردية عاجزة عن سد فجوة الاحتياج المتزايد.
خبير التقييم العقاري سامر صبحة أكد لـ”الوطن” أن غياب شركات التمويل العقاري النظامية يُعد أحد أكبر العوائق البنيوية أمام إعادة الإعمار في سوريا. فإعادة الإعمار بطبيعتها عملية كثيفة رأس المال وطويلة الأجل، ولا يمكن أن تعتمد على التمويل الذاتي للأفراد أو على المبادرات الفردية المحدودة. إن غياب هذه الشركات أدى في ظل النظام البائد إلى عدم التوسع العمراني في المدن الرئيسية ، وعدم تنفيذ التوسعات السكنية وفق تنظيم المناطق المختلفة أو استغراق وقت كبير لتنفيذها.
وقال صبحة: يبرز ذلك خاصة مع فشل تجربة الجمعيات السكنية التي استغرق تنفيذ التوسعات من خلالها عشرات السنوات، وفشل تجارب المؤسسة العامة للإسكان في مشاريع مثل ضاحية قدسيا والسكن الشبابي في الديماس.
واستعرض خبير التقييم العقاري الأثر المباشر لهذا الغياب بتباطؤ وتيرة الإعمار بسبب محدودية السيولة المتاحة لدى الأفراد والمستثمرين، وتحول السكن من “حاجة اجتماعية” إلى “سلعة استثمارية” محصورة بفئات قادرة نقدياً، وهو ما رفع قيمة العقار في سورية لسنوات طويلة بشكل أكبر من عواصم عالمية مهمة. إلى جانب عجز أغلبية الأسر عن تملك مساكن جديدة في ظل ارتفاع الأسعار مقارنة بالدخول.
وختم بالقول بكلمات أبسط: من دون تمويل عقاري طويل الأجل وبشروط معقولة، سيبقى الإعمار جزئياً، وانتقائياً، وبطيئاً.
وذكر صبحة أثر غياب التمويل العقاري على الفجوة السكنية وتوجيه المدخرات، حيث أدى غياب القنوات النظامية إلى تعميق الفجوة السكنية والاجتماعية عبر مسارين، المسار الاجتماعي إذ أصبح امتلاك المسكن مرتبطاً بالقدرة على الدفع النقدي أو التحويلات الخارجية، مما وسع الفجوة بين من يملك ومن لا يملك.
والمسار الاقتصادي في ظل ضعف الثقة بالقطاعات الإنتاجية (صناعة، زراعة، مشاريع صغيرة)، يحوّل العقار إلى وعاء ادخاري جامد، لا يخلق فرص عمل مستدامة بل يجمد رأس المال.
مضيفاً: بالنتيجة مدخرات وطنية كبيرة محبوسة في عقارات غير منتجة، مقابل شح التمويل في قطاعات قادرة على تحريك الاقتصاد فعلياً.
ويرى خبير أن العقبات أمام ظهور شركات تمويل عقاري حقيقية وهي عقبات متداخلة ويمكن تلخيصها بثلاثة مستويات أولها الأطر القانونية والتشريعية، مشيراً إلى غياب قوانين حديثة تنظم الرهن العقاري؛ فالممول لا يملك ضمانة قانونية فعالة لاسترداد حقه في حال تعثر المقترض، وإجراءات التنفيذ طويلة ومعقدة. فيتحول التمويل من نشاط مالي محسوب المخاطر إلى مغامرة قانونية، كما يؤدي لغياب وضوح حقوق الدائنين وآليات التنفيذ والتصفية.
وثاني المخاطر برأيه مخاطر الاقتصاد الكلي فتقلب سعر الصرف، وضعف القوة الشرائية نتيجة ضعف دخل المواطن، وغياب أدوات التحوط المالية، تجعل التمويل طويل الأجل عالي المخاطر، والخطر الثالث هو أزمة الثقة في تراجع ثقة المستثمرين بالبيئة الاستثمارية والخوف من تغير القواعد أو عدم استقرار السياسات. فالمشكلة هي غياب منظومة كاملة داعمة للتمويل.
واقترح خبير التقييم العقاري بدائل للمواطنين، إذ يرى أن البديل حالياً هو التمويل الذاتي التدريجي، والتحويلات من الخارج، والاقتراض غير النظامي. فمشاريع المؤسسة العامة والجمعيات غير مجدية لأنها تستغرق عشرات السنين. وهي حلول محدودة وغير عادلة.
ولفت إلى دور المصارف الذي وصف قدرتها حالياً بالمحدودة بسبب ضعف الودائع طويلة الأجل، وعدم ملاءمة أسعار الفائدة، ومخاطر التضخم وسعر الصرف.
وأكد الحاجة لبيئة قانونية ومؤسساتية تسهم في ترسيخ بيئة قانونية بتطوير قانون الرهن العقاري مع إجراءات تنفيذ سريعة ، وتأمين سوق تمويل متكامل، وإنشاء هيئة رقابية مستقلة وتطوير سوق ثانوي للرهون.
وختم بالقول: إعادة الإعمار في سوريا ليست مشكلة هندسية، بل مشكلة تمويل بالدرجة الأولى. ومن دون بناء منظومة تمويل عقاري مرنة وآمنة، سيبقى السكن أزمة مزمنة والمسكن سلعة استثمارية للمقتدر مالياً، وسيبقى الإعمار ناقصاً مهما توفرت النيات.
محمد راكان مصطفى