مقالات وآراء

الشمال السوري وسياسة أنصاف الحلول

بعد أيام من انتهاء محادثات نور سلطان، والتي باتت معروفة بمحادثات أستانا، وفي ظل ما كان ينتظر من تنفيذ ما تمخض عنها وبخاصة بعد إحياء هش لاتفاق وقف إطلاق النار الذي سقط مجدداً في خندق المراوغة وعدم الالتزام، تعود الجغرافية الشمالية بشقيها الغربي والشرقي لتصدر واجهة المشهد السوري من حيث تصاعد منسوب حدة التصريحات والتهديدات المتناقضة واحتمالية تسارع التطورات والأحداث ميدانياً بشكل غير محسوب ينبئ في بعض مساراته نحو اشتباكات لا تحمد عقباها.
فعلى الرغم أن البعض من المتابعين صنف اتفاق وقف إطلاق النار الذي تم إقراره في اليوم الأول من محادثات أستانا على أنه يشكل نواة وصيغة أولية للتنسيق غير المباشر بين دمشق وأنقرة، باعتبار أنه تم اتفاق عليه مسبقاً بين الأطراف الضامنة وبموافقة دمشق التي اشترطت تنفيذ مخرجات سوتشي لنجاحه والحفاظ عليه، تزامناً مع إجراء عملية تبادل وتحرير لمخطوفين لدى المجموعات المسلحة مقابل إطلاق عدد من الموقوفين بالتنسيق بين روسيا وتركيا، ومسارعة النظام التركي مؤخراً لإعادة اللاجئين السوريين إلى بلادهم.
إلا أن هذه الخطوات لا يمكن تصنيفها بأنها إجراءات بناء ثقة أو تغير في السلوك السياسي الخارجي للنظام التركي تجاه سورية، في ظل استمرار هذا النظام بالقفز على حبال الابتزاز ما بين روسيا وأميركيا واستغلال هامش الخلاف بينهما لتحقيق مطامعه التوسعية، لذلك فإن نفاد الصبر السياسي السوري كما وصفه رئيس الوفد السوري بشار الجعفري، إضافة إلى الضغط الروسي الإيراني لخرق الجمود في المشهد السياسي، فضلاً في الرغبة المشتركة للدول الضامنة مجتمعة وبأهداف متناقضة في تعزيز قوة أستانا ومنحه رصيداً إضافياً مؤقتاً في ظل التجاذبات والكباشات الدائرة بين هذه الدول مع واشنطن على الصعيد الفردي أو الجماعي، هو ما دفع أنقرة لسياسة أنصاف الحلول في محاولة منها أولاً لكسب الوقت الذي تبتغيه حسب ظنها، لإمداد أذرعتها العسكرية في منطقة خفض التصعيد، بالأسلحة وتخفيف حجم خسائرهم التي تكبدوها مؤخراً وإعادة تموضعهم على جبهات القتال ثانياً، وفي الجانب الثالث فإن أنقرة هدفت إلى تخفيف حجم ضغوط موسكو وأنقرة عليها وكسب ودهما في الآونة الحالية للتفرغ نحو تحقيق مشروعها المتعلق بإقامة المنطقة الآمنة في الشمال الشرقي في الجانب الرابع لفرض رؤيتها ضمن التجاذب الحاصل بينها وبين الولايات المتحدة الأميركية.
في المقابل نجد أن الولايات المتحدة الأميركية لجأت لذات السياسة في التعاطي مع تركيا حول مشروع المنطقة الآمنة، وهو الأسلوب الذي اتبعته سابقاً حول منبج، وهذا التكتيك الذي يطلق عليه «أنصاف الحلول» برز في تصريح عراب العلاقة التركية الأميركية ومبعوث الأخيرة الخاص حول سورية جيمس جيفري في تسويقه لما وصفه «رؤية أميركا الجديدة للمنطقة الآمنة» في محاولة لاحتواء إصرار النظام الأردوغاني بشن عدوان على الشمال السوري لاستئصال ما وصفه بالإرهاب بذريعة حماية أمن بلاده القومي، حيث تغيّب هذه الرؤية الجديدة لواشنطن أي دور لحليفتها المحلية «قسد» ولم تذكر أي وجود للقوات الأجنبية متعددة الجنسيات وحصر إدارتها بالشريكين التركي والأميركي فقط وفق وصف جيفري، وتتضمن إضافة إلى ذلك مراضاة واضحة لتركيا من خلال زيادة عمق الرقعة الجغرافية لهذه المنطقة الآمنة من 5 إلى 15 كم، وهي نصف المساحة التي تريدها تركيا وما يزيد على ضعف المساحة التي طرحتها واشنطن سابقاً وبعمق تقريبي يبلغ حوالي 140 كم، وهنا يمكن فهم سبب توقيت بيان وزارة الخارجية السورية الذي عبر عن رفضها القاطع لأي شكل من أشكال التفاهمات الأميركية التركية التي تشكل اعتداءً صارخاً على سيادة ووحدة سورية أرضاً وشعباً، هذا يشير إلى امتلاك القيادة السورية لمعلومات عن شبه توافق تركي أميركي حول إقامة المنطقة الآمنة التي سيكون ضحيتها حلفاء واشنطن بالدرجة الأولى أي «قسد» التي فضلت الرهان على الأميركي ولم تنصت للنصائح كافّة التي قدمت لها بما فيها النصيحة التي قدمها السفير الأميركي السابق في دمشق روبرت فورد.
اتباع سياسة أنصاف الحلول في الشمال السوري من واشنطن وأنقرة يشير إلى استعصاء الحلول السياسية لتنفيذ أجنداتهم وفقدان مفاتيح الحل في إقناع كل طرف للآخر وتأتي في إطار تبادل الأدوار بين الدول المعتدية، ويصب في مصلحة استنزاف الدولة السورية وتأخير للعملية السياسية، لذلك فإن هذه الدول تلجأ إلى إيجاد بيئات خصبة للأزمات ثم إدارتها على غرار ما يحصل في إدلب وكذلك شرق الفرات، فهي من جانب غير قادرة على حسم عسكري يمكنها من فرض شروط اللعبة ولا ترغب في أي منتوج سياسي لا يناسب رؤيتها، فواشنطن اليوم تبحث عن سبل وطرق لاحتواء تركيا لأهمية موقع الأخيرة جغرافياً ولمحاولة وقف تقاربها مع موسكو وإيران وتحافظ على وجود «قسد» بالمرتبة الثانية وبما يمنع الناتو من المزيد من التصدعات، وتركيا تريد استرضاء روسيا لكسب الوقت في إدلب ولتحقيق مكاسب سياسية وعسكرية واقتصادية فضلاً عن إدراكها عدم جدية الإدارة الأميركية الحالية والرهان على إدارة قادمة تضع تركيا في أولوية حلفائها في علاقاتها الخارجية عوضاً عن «قسد»، وروسيا في المقابل تبحث عن احتواء تركيا واسترضائها لفرض محور أستانا وما تضمنه من مخرجات مشتركة مع سوتشي لفرض رؤية حول الأزمة السورية بعيداً عن إملاءات جنيف التي تتمسك بها واشنطن، لذلك فإن حلفاء سورية وبخاصة موسكو، تستخدم تكتيك «أنصاف الحلول» مع تركيا والولايات المتحدة بهدف خرق موقف هذه الدول وما يحصل من اتباع سياسة العصا والجزرة مع تركيا هو خير دليل على ذلك، وفي الوقت ذاته هي تسعى إلى توسيع دائرة الدول المشاركة ولو بصفة مراقبين في أستانا، لفرض أمر واقع تتقبله واشنطن في جنيف ولأن جميع الفاعلين المشاركين والمدعوين للمشاركة ذات تأثير وتؤثر في مخرجات الأزمة السورية وإن اختلفت طبيعة هذا التأثر والتأثير.
النقطة الأهم في ذلك أن إتباع تكتيك أو سياسة أنصاف الحلول قد تشكل مبادراتها قنابل موقوتة قابلة للانفجار في أي لحظة وقد تغير من طبيعة الاصطفافات السياسية، ولاسيما أن تتركز على توافقات ومبادرات هشة نتيجة الحاجة والضرورة السياسية وليست القناعة السياسية، وهذا برز بشكل ملموس في إعلان متزعم جبهة النصرة أبو محمد الجولاني رفضه لطلب من وصفهم الأصدقاء في تطبيق سوتشي والانسحاب من جبهات القتال، وعودة المسار العسكري لتصدر الخيارات في إدلب، وسيظهر أكثر إن حصل توافق هو محتمل بين الأميركي والتركي حول المنطقة الآمنة من خلال مسارعة القوى الانفصالية لطلب التنسيق مع دمشق عبر موسكو لضمان الحفاظ على وجودها وتمثيلها.
دمشق في المقابل وبقراءة واقعية هي ليست بعيدة أيضاً عن هذا التكتيك ونجحت في انتهاجه بأكثر من منطقة ولعل عودة الخيار العسكري وإعلان انتهاء وقف إطلاق النار في إدلب ما هو إلا رسالة لفرض واقع سياسي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock