اقتصادالعناوين الرئيسية

المطارات أول أولويات العقارات.. التمويل يرسم هندسة سوق العقارات في سوريا

في بلدٍ يتعافى من آثار الحرب، وأمام مفترق طرق بين إعادة البناء وإعادة إنتاج الأخطاء، يبرز ملف التطوير العقاري كإحدى أكثر القضايا حساسية تتقاطع أمامه الأبعاد الاقتصادية بالعمرانية والاجتماعية، ليصبح التطوير العقاري أكثر من حجارة… بل مشروع يعيد تشكيل ملامح سوريا المقبلة.

انطلاقاً من أهمية هذا المُشرّع اطلع الرئيس الشرع على عدة مشاريع لإعادة التأهيل والتطوير العقاري بدمشق خلال اجتماع جرى في مبنى الأمانة العامة لرئاسة الجمهورية.

كما اطلع الرئيس الشرع خلال الاجتماع أمس على اقتراحات تتعلق بتطوير المطارات وعدد من الأحياء في عدة محافظات بهدف تحسين البنية التحتية وتعزيز مستوى الخدمات المُقدّمة للمواطنين

أكد خبير التقييم العقاري الدكتور أنور وردة أن مشاريع إعادة التأهيل والتطوير العقاري تُعد أحد أهم محركات الانتعاش الاقتصادي، لأن القطاع العمراني يرتبط ارتباطاً وثيقاً مع القطاعات الإنتاجية والخدمية، ويفتح سلسلة واسعة من الأنشطة المتكاملة في قطاع المقاولات ومواد البناء والمفروشات والتجهيزات والنقل والخدمات الهندسية، وهذا ينعكس مباشرة على إتاحة فرص العمل وتحريك الطلب المحلي.

ونوه وردة بإسهام هذه المشاريع في رفع قيمة العقارات والأراضي في المناطق المُستهدفة، ويمنح الدوائر البلدية والمالية موارد إضافية لتحسين الخدمات العامة والبنى التحتية، تستقطب رؤوس الأموال المحلية والخارجية.

هل التطوير العقاري يعيد البناء… أم يعيد هندسة المجتمع؟

وأضاف: غير أن هذه المشاريع تطرح سؤالاً بالغ الأهمية، هل ستعيد بنّاء المناطق المُدمّرة بروح وطنية مسؤولة، أم ستعيد هندسة المجتمع وتحوّره طبقياً وديموغرافياً بشكل مختلف؟ ..ما يقود إلى طرح هذا السؤال هو أن المستوى الفاخر الذي تتوجه إليه المشاريع المُعلن عنها سيؤدي إلى إقصاء عدد كبير من السكان الأصليين للمناطق المُدمّرة، وهي في معظمها مناطق شعبية ذات اقتصاد ضعيف هش.

وحذّر وردة من أن يمحو هذا الأمر الهوية التاريخية والاجتماعية لتلك المناطق، ويحوّلها إلى مناطق نخبوية لا تنتمي إلى أصلها شكلاً ولا مضموناً، وفي تجارب عدد من الدول المجاورة (كلبنان ومصر) ما يعطي صورة واضحة عن المقصود.

المتطلبات الأساسية

وحول المتطلبات الأساسية التمويلية والتشريعية والتخطيطية لضمان أن تتحول هذه المشاريع إلى رافعة تنموية حقيقية وليس مجرد مبادرات تجميلية قصيرة الأثر، قال: لكي تتحول مشاريع إعادة التأهيل والتطوير العقاري في سوريا إلى رافعة تنموية حقيقية، لا بدّ من تهيئة أرضية تشريعية داعمة، وتمويل مُستدام، وتخطيط مٍحكم يدمج البعد الاقتصادي والاجتماعي والعمراني معاً، فالتنمية الحضرية ليست مظهراً تجميلياً، بل عملية متكاملة تعيد تشكيل المدينة وتمنحها قدرة جديدة على النمو وخلق الفرص، ولا يكفي تنفيذ أعمال عمرانية تجميلية؛ بل يتطلب الأمر منظومة متكاملة من الشروط التمويلية والتشريعية والتخطيطية التي تضمن الاستدامة والعدالة والكفاءة.

ولخّص وردة أهم المتطلبات في ثلاثة محاور هي: المتطلبات التمويلية التي تعتمد على تنويع مصادر التمويل لتكون مزيجاً من التمويل الحكومي، واستثمارات القطاع الخاص، ومساهمات المغتربين، وصناديق إعادة الإعمار، لتجنّب الوقوع في فجوة التمويل أو التبعية لمستثمر واحد، إضافة إلى اتباع آليات تمويل عملية، كتحفيز التمويل العقاري المصرفي، وصناديق الاستثمار التي تسمح بتمويل طويل الأجل، وتوفير ضمانات مالية واضحة لحماية المستثمرين وتقليل المخاطر على أموالهم، الأمر الذي يُشجّع تدفّق رأس المال إلى الداخل السوري.

والمتطلبات التشريعية، وفي مقدّمتها تحديث قوانين التطوير وإعادة الإعمار لتصبح مرنة وعصرية من جهة، وآمنة قانونياً من جهة أخرى وتكفل حقوق الدولة والمالكين والمستثمرين.

وأضاف: لا يخفى على أحد أن هناك حقوقاً مهضومة للمالكين الأصليين سبّبتها قوانين الاستملاك الجائرة والتعويضات التافهة التي مارستها أجهزة الدولة البائدة بصلف وتجبّر وصل إلى حد منع طرح النزاعات العقارية في مجلس الدولة، وحرم المالكين من التعويض العادل وإعادة الإسكان. هذا يفرض أن يتم سد الثغرات التشريعية المُتعلقة بهذه المعاناة التاريخية بأثر رجعي، لأن المصالحة الاقتصادية بين الدولة والمواطن تبدأ من هنا، ومن دون المصالحة الاقتصادية يمكن بناء الحجر لكن لا تمكن استعادة الثقة بين هذين القطبين: الدولة والمواطن.

المتطلبات التخطيطية المتطلبات التخطيطية التي تعتمد على رؤية عمرانية شاملة طويلة الأمد تربط مشاريع إعادة التأهيل بخطط تنمية اقتصادية واجتماعية، كي لا تتحول إلى عمليات ترقيع منفصلة عن السياق العمراني الأشمل.

ويرى وردة أن هذا يحتاج إلى تخطيط تشاركي مع المجتمع المحلي لتحديد أولويات التأهيل، ضماناً لتلبية الاحتياجات الحقيقية، وليس لمجرد القيام بتحسينات شكلية، كما يحتاج إلى دمج البعد الاقتصادي في التخطيط عبر تصميم مشاريع تُحفز النشاط التجاري والخدمي، وتدعم الوظائف الحضرية، وتخلق بيئة مُشجّعة لريادة الأعمال، وتطور البنى التحتية الداعمة، كالنقل، والطرق، وشبكات الخدمات، والحدائق العامة، لأنها الركيزة الأساسية لنجاح أي منطقة مطوّرة حديثاً.

المخاطر والتحديات

وحول المخاطر والتحديات التي يجب على الحكومة والقطاع الخاص أخذها بالحسبان عند توجيه الاستثمارات نحو مشاريع تطوير المطارات والأحياء، قال: لا شك في أن القطاع العقاري يُشكّل فرصة استثمارية كبيرة، لكن نجاحه لا يعتمد فقط على حجم الأموال الموجهة إليه، بل على قدرة الحكومة والقطاع الخاص على إدارة المخاطر وخلق بيئة استثمارية مستقرة وعادلة وشفافة، ومبنية على رؤية بعيدة المدى، وإلا فإنها تتحول إلى مبادرات مكلفة ضعيفة الأثر.

وأشار وردة إلى أن العقار ليس دائماً فرصة استثمارية واعدة، فقد يتحول في لحظة إلى فخ اقتصادي يطغى على الأنشطة الإنتاجية والخدمية، ويهدّد بتشكيل فقاعة يمكن أن تنفجر في لحظة ما، وتكتسح بأذاها الاقتصاد الكلي للبلد.

تطوير المطارات… أولوية حقيقية أم تزييف عمراني؟

وأضاف: أما ما يتعلق بالمطار، فرغم الأهمية التي تتعلق به كواجهة تستقبل القادمين وتودع المغادرين، إلا أن هناك سؤالاً يطرح نفسه: هل من الحكمة أن تُعطى الأولوية لبناء مطار حديث يوصل إلى مدينة مريضة تعاني العوز والحاجة إلى إنارة شوارعها ولملمة قمامتها؟ وهل مشروع المطار هو حاجة فعلية للبلاد، أم رسالة سياسية فيها من البروباغاندا أكثر مما فيها من الحاجة الأساسية؟

ويرى وردة أن سلّم الأولويات غير مدروس بشكل ناضج، ويحمل مخاطر تتعلق بالتمويل وضبابية العائد وطول دورة الاستثمار وغير ذلك، إضافة إلى أنه يوحي بانفصال الرؤية الرسمية عن حاجات الناس وأولوياتهم. فإنفاق المال على التعليم والصحة والكهرباء وما شابهها أولى في المرحلة الحالية من إنفاقه على مطار قائم يمكن تطوير أدائه بالحد الأدنى من الإنفاق، وإذا تحول المطار إلى واجهة قوية لمدينة ضعيفة، فسنكون أمام واحدة من أخطر عمليات التزييف العمراني المفضوح… فعندما نتحدث عن مطار دبي المدهش، نرى خلفه مدينة أكثر إدهاشاً! وكذلك الأمر في مطار شارل ديغول في باريس، ومطار صبيحة في إسطنبول. أما مطار دمشق فالأمر حالياً مختلف جداً.

هل تمتلك السوق المحلية قدرة استيعابية لاستثمارات عقارية مستدامة؟

وحول امتلاك السوق المحلية القدرة الاستيعابية والإطار التنظيمي اللازم لضمان جذب استثمارات مستدامة في قطاع عقاري يعاني تشوهات هيكلية منذ أكثر من عقد، قال: السوق العقاري في سوريا يمتلك إمكانات كامنة غير مستثمرة بالفعل، لكنه في الوقت نفسه يواجه تشوّهات هيكلية عميقة متراكمة من سنوات طويلة، والجواب عن قدرته على استيعاب استثمارات مستدامة لا يكون بنعم أو لا، بل يعتمد على دراسة القدرة الاستيعابية المتوسطة حالياً والقابلة للتحسن لاحقاً بسبب النمو السكاني الطبيعي وعودة شريحة واسعة من السكان، وهو مُؤجّل بسبب ضعف القوة الشرائية والدخل الفردي من جهة، والزمن اللازم لإعادة إعمار المناطق الشاسعة التي أصابها الدمار الهائل من جهة أخرى.

وأضاف: هذا يعني أن السوق يمتلك قدرة كامنة لاستيعاب الاستثمارات، لكنها مشروطة بقدرة المستثمر على قراءة المخاطر المالية، وبتوفر مشاريع ذات جدوى اقتصادية حقيقية، لا مشاريع مضاربات عقارية قصيرة المدى، وهو يحتاج إلى إصلاحات تنظيمية وتمويلية عميقة، وإلى منصات عقارية رسمية ومهنية شفافة وفاعلة، ومن دون تحديث القوانين، وتحسين الحوكمة، وتوفير شفافية في البيانات، ستبقى الاستثمارات محصورة في مشروعات قصيرة الأجل ومضاربات تخلق فقاعة اقتصادية خطيرة بدل أن تكون رافعة تنموية حقيقية، وسيبقى تغريد الدولة والحكومة بعيداً عن سرب المواطن وحاجاته الأساسية وألمه المؤذي، وسيرسم إشارة استفهام كبيرة تقول: هل نحن أمام إعادة إعمار أم إعادة توزيع للثروة على أشخاص جدد بوجوه نافذة جديدة؟ وأين دور الدولة ومسؤوليتها الاجتماعية فيما يجري؟ هل لها اليد الطولى، أم إنها مجرد مدير يفتح أبواب الاستثمار لمن يريد استغلال فرصة غيابها وعجزها عن سد الفجوات القائمة (وما أكثرها)!

مسؤولية وليست مجرد مشروع استثماري

وختم وردة بالقول: إن إعادة الإعمار مسؤولية وطنية وليس مجرد فرصة استثمارية، وليست الخشية من ألا ينجح، بل الخشية من أن يسير في الاتجاه الخاطئ وينجح فيه، والأخطر من ذلك هو أن يتحول إلى مشروع سياسي طبقي يعيد تشكيل المجتمع السوري من وراء ستار عنوانه: بناء المدن المدمّرة.

محمد راكان مصطفى

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock