مقالات وآراء

النقد بين الضرورة والخطر

هل النقد في الدول الناشئة ضرورة لا غنى عنها أم خطر يهدد استقرارها؟ سؤال يفرض نفسه بقوة ونحن نتابع التجربة السورية الوليدة التي ما زالت تبحث عن توازنها وسط تحديات معقدة.

فالواقع يقول إن أي دولة في طور النشوء تمر بمرحلة مليئة بالأخطاء، وهذا أمر طبيعي، بل وصحي أحيانًا إذا ما وُجدت آلية لتصحيحها.

لكن الخطر يكمن حين  يُرفع  شعار “الغاية تبرر الوسيلة” كرد فعل على النقد.. فيُترك المجال للأخطاء أن تتراكم بحجة أن الحفاظ على السلطة أَولى من التوقف عند محاسبة الذات، هذا التفكير قد يضمن الحكم على المدى القريب لكنه يهدده على المدى البعيد.

النقد في جوهره ليس شرًا ولا خيرًا، إنما هو أداة، فإذا وُجِّه بعقل وحكمة كان وسيلة بناء تكشف مواطن الخلل وتفتح الطريق للإصلاح، أما إذا تُرك بلا ضابط، أو وقع في يد الحاقدين والانتهازيين، فإنه يتحول إلى أداة هدم تُضعف التجربة من الداخل.

على المستوى الفردي، الإفراط في النقد قد يجعل صاحبه يميل إلى المثالية المفرطة، فيفقد الحافز على العمل ويكتفي بالاعتراض والتنظير، وعلى المستوى العام، قد يتحول النقد إلى وسيلة للهدم إذا استغله أصحاب الأهواء ليقدّموا أنفسهم في ثوب الناصح الأمين، بينما يخفون وراءه أجندات شخصية أو سياسية.

في المقابل، فإن السكوت عن الأخطاء ليس حلًا، الصمت والتبرير المستمر يؤديان إلى تراكمات تشبه كرة الثلج، تبدأ صغيرة ثم تكبر حتى تصبح عصية على السيطرة، لتفاجئ الجميع بالانهيار الشامل. ولنا في تجارب دول عدة أمثلة حيّة: أنظمة استبدلت النقد البنّاء بالتطبيل والمديح الأجوف، فما كان مصيرها إلا السقوط حين انفجر الغضب الشعبي.

إذن، السؤال الأهم ليس: “هل نسمح بالنقد أم نمنعه؟” بل: “كيف ننظم النقد ونوجهه ليكون أداة إصلاح لا هدم؟”

الحل برأيي يكمن في ثلاث خطوات عملية:

  1. إيجاد دوائر نقد داخلي داخل كل مؤسسة حكومية أو خدمية، مهمتها مراجعة الأداء باستمرار، وتقديم تقارير موضوعية تساعد على معالجة الأخطاء قبل أن تظهر للعلن، هذه الدوائر يجب أن تكون فاعلة ومستقلة نسبيًا حتى لا تتحول إلى مجرد أوراق توضع على الرف.
  2. تخصيص وجوه إعلامية رشيدة تُمارس النقد العلني بشكل بنّاء، بحيث يصل صوت الإصلاح إلى المجتمع من أشخاص معروفين بموضوعيتهم وحكمتهم، فالمجتمع بطبعه يحب أن يسمع النقد، وإذا لم يجده عند العقلاء، فسوف يتلقاه من أصحاب الأجندات الهدامة.
  3. تعزيز ثقافة النقد البنّاء في المجتمع ابتداءً من المدارس والجامعات، عبر مناهج وأنشطة تشجع الطلاب على التفكير النقدي المسؤول، بهذه الطريقة ينشأ جيل يرى في النقد وسيلة للإصلاح، ويعتبر النقد الهدام سلوكًا غريبًا وهجينًا.

النقد إذن ليس رفاهية فكرية، بل هو ضمانة لاستمرار التجربة وحمايتها من التكلس. وإذا كانت بعض القيادات تخشى من النقد خوفًا على سمعة الدولة أو مكانتها، فإن التجارب العالمية تثبت أن الدول التي تحتضن النقد البنّاء وتوظفه في عملية الإصلاح هي الأقدر على الصمود والبقاء.

التجربة السورية اليوم تحتاج إلى النقد بقدر حاجتها إلى الإنجاز، بل إن الإنجاز من دون نقد لا يُكتب له الاستمرار. نحن بحاجة إلى شجاعة الاعتراف بالخطأ، وجرأة المراجعة، ووعي التمييز بين النقد البنّاء والنقد الهدام.

الخلاصة أن النقد ضرورة وخطر في آن واحد: ضرورة حين يصدر عن عقلاء يريدون الإصلاح، وخطر حين يتحول إلى وسيلة بأيدي الانتهازيين والمتسلقين. وليس المطلوب أن نلغي النقد ولا أن نتركه بلا قيد، بل أن نؤسس لثقافة نقدية رشيدة تحفظ التجربة وتمنحها القدرة على الاستمرار.

النقد ليس غاية بحد ذاته، بل وسيلة للبقاء والنهوض. ومن يظن أن الصمت عن الأخطاء يحفظ الحكم، فليتأمل في تجارب التاريخ القريب، حيث لم يسقط حكمٌ بقوة النقد بقدر ما سقط بثقل الأخطاء المكبوتة.

 

بقلم: عبدالله الدالي

زر الذهاب إلى الأعلى
الوطن أون لاين
إغلاق

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock