مقالات وآراء

الولايات المتحدة وسورية والانقلاب على ما أفسدهُ الزمن.. ماذا لو كان العطار ماهراً!

يقول علم النفس إن الكذِبَ يحتاج لمجهودٍ أكبرَ من الصدق لأن الكاذبَ لديهِ مهمة مزدوجة، التركيز على صياغة الكذبة والدفاع عنها بهدفِ إقناع المتلقي بها، أما المهمة الثانية والتي تبدو أصعبَ من سابقتها فهي العمل لإخفاءِ الحقيقة.

في السياسةِ لا اختلافَ في الجوهر بما تجسدهُ هذهِ الفكرة بل بالتفاصيل كالاختلاف مثلاً بحجمِ المتلقي لكذبِ السياسة الذي غالباً ما يكون أكبرَ بكثيرٍ لأنه يخاطب المجتمعات ككل وبالتالي يكون العمل لإخفاء الحقائق أصعب وهو غالباً ما ينتهي بالفشل، هذا الفشل وإدارته بطريقةٍ تضمن استمرار السياسة ذاتها شكلاً وتراجعها مضموناً باتَ يسمى اليوم بـ«الواقعية السياسية».

قد نتفق جميعاً بأن مصطلحات كـ«الحرية» و«حق التعبير» هي من أكثر المصطلحات التي تم الإساءة إليها خلال لوثة الربيع العربي، لأن استخدامها كان في المكان الخطأ، فلا حريةَ لمن يبني مطالبهُ على أسسٍ مذهبية وإن كانت مطالبه عادلة، ولا مصداقية لمطلبِ «حق التعبير» لمن مازال يقدِّم النقلَ على العقل لأنه سيبقى يدور في مجاهل الفكر الصحراوي المتوحش، بالسياق ذاته فإن مصطلح «الواقعية السياسية» هو كذلك الأمر أحد أكثر المصطلحات التي تمت الإساءة إليها خلال هذه الفترة لدرجةٍ تحول فيها المصطلح إن جازَ التعبير إلى «مكب نفايات» يُرمى فيها الفشل السياسي والتراجعات والانهزامات لكن بطريقةٍ تبدو أقرب للتجميل، ولعلَ وسطَ ما نعيشهُ اليوم من تهدئةٍ في جميعِ الملفات في المنطقة، وصولاً إلى الانفتاح العربي على سورية والذي قد ينتهي بعودتها إلى الجامعة العربية فإنَّ سؤالاً جوهرياً طفا على السطح: أينَ الولايات المتحدة الأميركية من كل ما يجري؟

من الواضح بأن هناك وجهتي نظر بما يتعلق بموقف الولايات المتحدة مما يجري، الأولى ترى بأن كل ما يجري هو بإشارات وترتيبٍ أميركي، غالباً من يطلقون هذه الافتراضات لا تبدو مشكلتهم مع الولايات المتحدة بقدرِ ما تبدو مشكلتهم مع الدول العربية التي رفعت مؤخراً سلاح التمرد بوجهِ الولايات المتحدة ونخص بالذكر هنا المملكة العربية السعودية، هل الولايات المتحدة هي من هندست الاتفاق السعودي- الإيراني مثلاً؟ ما هذهِ السذاجة؟

أما وجهة النظر الثانية فهي ترى بأن فكرةَ خروج الأمور من يد الولايات المتحدة باتت حقيقة قائمة، الأمثلة باتت كثيرة بعيداً عن الخليج العربي وغيره هناك نزوع أميركي نحو احتواء التراجعات، بمعنى آخر إن لم نكن قادرين على إيقاف هذا المد فلماذا لا نكون جزءاً منه؟ هنا يبرز الحدث الأهم في المفصل الأهم والذي بات يشغل بال كبرى مراكز الدراسات الغربية وقنواتها الإعلامية: هل هناك من إمكانيةٍ لتلاقي مصالح أميركية ـ سورية؟ بل لو ذهبنا أبعدَ من ذلك لقمنا بطرح السؤال بطريقة تفكيرهم: هل ستتعاطى الولايات المتحدة بواقعيتها المعتادة مع استعادة «النظام السوري» زمامَ المبادرة على جميع الصعد؟!

مبدئياً إذا أردنا تلخيصَ تاريخِ العلاقات الأميركية ـ السورية انطلاقاً من العام 1970 حتى اليوم، فإننا نستطيع تلخيصها في الصراعِ بين مفهومين، المفهوم الأول وهو يستند لمقولةِ «من يملك الحق يملك القوة»، هذهِ العبارة ليست مجردَ تنظيرٍ في الجيوبولتيك، وليست درساً هارباً من أفكار المفكر جورج هيغل في السياسة، لكنهُ درس عملي تكرَّس في العديد من القضايا الهامة على رأسها قضية الجولان السوري المحتل، لماذا لم تنجح كل قوى الأرض بإذابتها؟

المفهوم الثاني وهو مفهوم ابتزازي استندَ أساساً إلى فكرةِ التلاعب بالألفاظِ الواردة في المفهوم الأول لتصبح: «من يملك القوة يملك الحق»، عبارةٌ أطلقها مُخادع فكرَّرَها الجبان وصدقها منهزم، عبارةٌ أرادَ الأميركي من خلالها اعتبارَ القوة هي السلاح الذي يجعلك دائماً على حق.

هذا الصراع الذي حكمَ العلاقة بينَ الولايات المتحدة وسورية شهدَ خلالَ عقودٍ خمسة الكثيرَ من الصعود والهبوط، التوتر والتهدئة، لو بدأنا منَ الجانبِ السوري فإن مفهوم «قوة الحق» هو من حكمَ هذه العلاقة لأن الحقوق لا تُساوَم بالمصالح الآنيــة، فقوة الحق هي من دفعت الراحِل حافظ الأســد لرفــضِ التخلــي عن شاطئ بحيرة طبريا رغمَ أن فتــرة الرئيس الأسبق بيل كلينتون كانت أحد أفضل المراحل التي شهدت فيها العلاقــات الســورية- الأميركية شهرَ عسلٍ غير مسبوق، بل هناك من يذهب أبعدَ من ذلك عندما يعتبر أن الفضائح التي لاحقت بيل كلينتون كان سببها إصرارهُ على أهمية التوصل إلى حلٍّ مع الجانب السوري، بالسياق ذاته فإن قوة الحــق هي مــن دفعت بالرئيــس بشــار الأســد ليقول لاءاتِه الشهيرة لوزير الخارجية الأميركي الأسبق كولن بــاول صاحــب أكبــر كذبــة كيميائيــة في تــاريخ الأمــم كرَّســت القـوة لسرقةِ الحق ومازالَت المنطقة بالمجمل تدفع ثمنَها حتى اليوم.

أما على الجانب الأميركي فلم يكن الأمر كذلك، كانت المصالح الأميركية المستندة للقوة هي التي تحكم هذهِ العلاقة، ألم تكن المصلحة الأميركية بإعادة الاعتراف بشرعيةِ «النظام في سورية» كما يسمونهُ عندما أدركت في ثمانينيات القرن الماضي بأن لبنان كتلةَ توازنات لا يمكن العبث بها بهدف الإجهاز على سورية، وهنا يكثر الكلام عن أن الدولة السورية فكرَت بالسياق ذاته عندما تحالفَت معَ الولايات المتحدة في حرب الخليج الأولى مقابلَ إطلاق يدها في لبنان، تبدو هنا الفرصة متاحة للرد على هذهِ التفاهة التي يُطلقها البعض بين الفينةِ والأخرى، مبدئياً من تذكيرِهم بأن حرب الخليج الثانية بدأت عندما قام جيش دولة عربية باحتلال دولةٍ عربية مسالمة، تداعى بعدها مجلس الأمن للقيام بمسؤولياتهِ بعدَ رفض النظام العراقي السابق الانسحاب من الكويت، بالسياق ذاته هناك من يتجاهل الرسالة المتلفزة التي أرسلَها الراحل حافظ الأسد للراحل صدام حسين والتي طالبهُ فيها رغم الخلافات الكبيرة بالانسحاب من الكويت حفاظاً على الأمن القومي العربي الذي كان يحتضر، واعداً إياه بأن تكون سورية إلى جانبِ العراق في حال تم الانسحاب، لو أن القيادة السورية يومها فكرت بلعبة المصالح كما يدعي البعض فلماذا وجهَ الراحل هذه الرسالة وأطلقَ هذا الوعد؟

هنا قد نصطدم بسؤالٍ آخر: أليسَت قوة الحق هي من جلبت كل هذا الدمار والخراب؟

الجواب هنا بسيط، لكنه يبدو عصياً على الفهم لمن لايزال يرى الحرب التي جرت خلال عقدٍ من الزمن هي صراع بين «نظام» يريد البقاء و«معارضة» تطمح للوصول إلى السلطة، ببساطة قبلَ أن تقحموا أنفسكم مقاربات كهذه انظروا إلى شكلِ هذا العالم قبل بدءِ الحرب على سورية وما وصلَ إليه الآن لتعلموا بأن تقزيم الصراع إلى هذا الحد لا يُجدي لأنه سيكون أشبهَ بمن يمارس ما سماها علم النفس بـ«الواقعية المميتة»، وبمعنى آخر، لا تقل لي ما هو حجم الدمار الناتج عن التمسك بـ«قوة الحق» قبلَ أن تشرح لنا عن الدمار الذي خلفته سياسات من يظن بأن «امتلاك القوة هو الذي يفرض الحق»، فهل سنكون ربما أمام مرحلةٍ جديدة في العلاقة بين الولايات المتحدة وسورية؟

كانت الولايات المتحدة ولا تزال أحد أبرزَ من يهندسون الخسارة والتعاطي معها بطريقةٍ تظهرهم وكأنهم الرابح الأهم، لكن بالسياق ذاته تبدو مشكلة السياسة الخارجية الأميركية بأنها تأخذ حيزاً طويلاً من الزمن حتى تقتنع بالتراجع، في العام 2010 قالت وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون أمام الكونغرس بأن التعاون مع سورية مشروط بالعملِ لتحقيق الاستقرار في الشرق الأوسط، يومها كانت لهجة كلينتون أشبه بالشروط المغلفة بالتهديدات، تحديداً أن فتيل الربيع العربي كان بالكاد مندلع، اليوم سنعود إلى هذا التصريح لكن ليسَ بالطريقة التي أرادتها كلينتون ولا حتى بالبراغماتية المشوهة التي لا يحسن البعض استخدامها، نعود لهذا التصريح لنقول إن الأميركي يعلم بأن تهدئةَ الأوضاع في الشرق الأوسط مرَّ وسيمر عبر سورية التي كانت ولا تزال لا ترى بالأميركي عدواً، لم يكن هناك في الأدبيات السورية يوماً مصطلح «الموت لأميركا» لكن هناك من حول بسياساتهِ العدوانية الأميركي إلى محتل وعدو في نظر الشعوب الحرة، من الواضح بأن الأميركي انتظرَ كثيراً تبديل الثوابت السورية، لكنه بات اليوم يرى أن ثبات ما تبقى من الوجود الأميركي في المنطقة مرتبط بالتعاون مع سورية، ربما يرى البعض بهذا الكلام اليوم مبالغة كما رأوا في ملفاتٍ سابقة مبالغاتٍ مماثلة لكن في السياسة كل شيٍء ممكن فقط «قوة الحق» هي التي تجعلك تقرأ المستقبل بهدوء، تحديداً إن من يتسلح بهذه القوة جاهز للتعاون بأي ملف من دون استثناء، لأن القيادة السورية لم تعتد على سياسة التناقضات في الرؤى، عندما أعادت سورية الطيار الأميركي روبرت جودمان الذي أسقط الجيش العربي السوري طائرته في الحرب اللبنانية، لم تعده لأنها أرادت ابتزاز الولايات المتحدة بل لأنها تدرك بأن حربها ليست مع الولايات المتحدة أو كما قال يومها الوسيط الأميركي القس جيسي جاكسون للراحل حافظ الأسد: نحن لسنا بحالة حرب فلماذا لا يكون هناك فرصة للالتقاء؟ ربما من المفيد التذكير بهذه القصة ليدرك الجميع بأن هناك فرصاً للالتقاء، لكن كل من لديهِ مطالب عليهِ واجبات، هذه الواجبات ليست مستحيلة هي فقط مبنية على فرضية اقتناعه بأن الكذب يحتاج لمجهودٍ أكبر فماذا إن كنتم قد فشلتم حتى في إخفاء الحقائق.. هي الواقعية السياسية التي يجيدها الأميركي وستظهر نتائجها عاجلاً أم آجلاً.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock