باحث اقتصادي: سيكولوجيا الليرة والدولار.. الأسعار تركب المصعد لكنها لا تنزل به

بينما تترقب الأعين شاشات الصرف بانتظار تعافي الليرة السورية، يصطدم المواطن بواقع مرير؛ فالأسعار التي تصعد بـ”المصعد” عند هبوط العملة، ترفض النزول حتى بـ”الدرج” عند تحسنها. هذا الانفصام بين سعر الصرف وواقع الأسواق ليس مجرد خلل فني، بل هو مزيج معقّد من انعدام الثقة، “الذاكرة التضخمية”، وسلاسل إمداد معطوبة.
الخبير الاقتصادي والمصرفي الدكتور إبراهيم نافع قوشجي قال: على مدار العقد الماضي، شهدت سوريا تدهوراً حاداً في قيمة الليرة السورية مقابل الدولار الأميركي، ما انعكس مباشرة على أسعار السلع والخدمات في الأسواق المحلية. ومع كل انخفاض في سعر صرف الليرة، كانت الأسعار ترتفع بوتيرة متسارعة، إلا أن المفارقة الكبرى تكمن في أن هذه الأسعار لا تعود للانخفاض بنفس السرعة أو حتى لا تنخفض إطلاقا عند تحسّن سعر الصرف.
الأسباب الكامنة وراء هذه الظاهرة
يرى قوشجي أن أحد أبرز العوامل النفسية التي تفسر عدم انخفاض الأسعار مع تحسّن سعر الصرف هو فقدان الثقة. فالتجار والمستهلكون على حد سواء لا يثقون بأن التحسّن في سعر الصرف مستدام، بل يعتبرونه مؤقتاً وعرضة للانتكاس في أي لحظة. هذا الشك يدفع التجار إلى التريث في خفض الأسعار، بل وربما الإبقاء عليها مرتفعة كنوع من التحوّط.
مضيفاً: إلى جانب ذلك، ترسخت في الوعي الجمعي لدى السوريين “ذاكرة تضخمية” نتيجة سنوات من الانهيار الاقتصادي، ما جعل من ارتفاع الأسعار أمراً طبيعياً، بينما أصبح انخفاضها أمراً نادراً وغير متوقع.
وأشار إلى أن هذه الذاكرة تؤثر في سلوك المستهلك الذي بات يتقبل الأسعار المرتفعة كأمر واقع، ما يمنح التجار هامشاً أوسع للتمسك بتسعيرهم المرتفع.
التحوّط المفرط وغياب المنافسة
وأوضح أستاذ الاقتصاد أن التجار يعتمدون في تسعير بضائعهم على ما يُعرف بـ”التحوّط المفرط”، حيث يضعون أسعاراً تفوق السعر الحقيقي للدولار في السوق، تحسباً لأي تقلبات مفاجئة.
موضحاّ أن هذا السلوك يعكس غياب آليات تسعير شفافة، ويُغذيه غياب المنافسة الحقيقية في الأسواق السورية التي تتسم بطابع احتكاري، حيث تسيطر قلة من التجار على سلاسل التوريد والتوزيع.
ويرى قوشجي أنه في ظل هذا الاحتكار، لا توجد ضغوط سوقية تُجبر التجار على خفض الأسعار، حتى عندما تنخفض تكاليف الاستيراد أو يتحسن سعر الصرف، بل إن بعضهم يستغل هذا التحسن لتحقيق أرباح إضافية من دون أي انعكاس إيجابي على المستهلك.
سلاسل الإمداد المعطوبة
ولفت قوشجي إلى أن الاقتصاد السوري يعتمد بشكل شبه كلي على الاستيراد، سواء للمواد الخام أم السلع النهائية، وهذا الاعتماد يجعل الأسعار شديدة الحساسية لتقلبات سعر الصرف، لكن المشكلة لا تكمن فقط في الاستيراد، بل في تعقيد سلاسل الإمداد المحلية، التي تعاني ضعفاً في البنية التحتية، وارتفاع تكاليف النقل، وتراجع الإنتاج المحلي.
وقال: حتى في حال تحسن سعر الصرف، فإن البضائع الموجودة في السوق تم استيرادها بسعر صرف أعلى، ما يجعل التجار يبررون عدم خفض الأسعار بحجة تعويض التكاليف السابقة. كما أن تأخر دورة التوريد، وغياب الدعم اللوجستي، يسهمان في تأخير انعكاس أي تحسن اقتصادي على الأسعار النهائية.
آليات تسعير غير مرنة
وعن آليات التسعير في السوق السورية، يرى أستاذ الاقتصاد أنها لا تستند إلى قواعد العرض والطلب بقدر ما تتأثر بالتوقعات المستقبلية، وسعر الدولار في السوق السوداء، وتكاليف الإنتاج التي تُحسب غالباً بالدولار. في ظل غياب الشفافية والرقابة، تصبح الأسعار رهينة لمزاج التجار وتقديراتهم الخاصة، لا لواقع السوق.
ثقافة المقاطعة كأداة مقاومة
ويرى قوشجي أن مواجهة هذا الواقع، تبرز الحاجة إلى تفعيل أدوات مجتمعية للضغط على التجار، وأبرزها “ثقافة المقاطعة الواعية”. فالمقاطعة المنظمة للسلع التي تشهد ارتفاعاً غير مبرر في الأسعار، يمكن أن تكون وسيلة فعّالة لإجبار التجار على مراجعة تسعيرهم.
إلى جانب ذلك، يلعب الوعي الاستهلاكي دوراً محورياً في كبح جماح الغلاء، من خلال توعية المواطنين بحقوقهم، وتشجيعهم على اتخاذ قرارات شرائية مدروسة. كما أن للمجتمع المدني والإعلام دوراً في فضح الممارسات الاحتكارية، والمطالبة بتفعيل الرقابة الحكومية على الأسواق.
وختم قوشجي بالقول: إن فهم “سيكولوجية الليرة والدولار” يتطلب النظر إلى ما هو أبعد من الأرقام والمؤشرات الاقتصادية، نحو العوامل النفسية والسلوكية التي تحكم سلوك السوق. وبينما لا يمكن تجاهل التحديات البنيوية التي تواجه الاقتصاد السوري، فإن بناء الثقة، وتعزيز الشفافية، وتمكين المستهلك، تمثل خطوات ضرورية نحو سوق تنافسية حرة أكثر عدالة واستقراراً.
محمد راكان مصطفى