مقالات وآراء

«باستيل» وطبّال وسيناريو «المقاومة في وجه الشارع»: عندما يتحدث نصر اللـه عن «معلومات»

نهاية تموز الماضي وفي مقال بعنوان «سيناريو قوات دولية لحصار لبنان»: هل هناك ما هو أسوأ؟» قلنا: إن هذا السيناريو يجري الإعداد له كبديل عن الفشل الغربي المتتالي على الساحة السورية ولعلّ رأس هذا الفشل أولاً وأخيراً هو الموقف من «إسرائيل»، وبمعنى آخر: إن وضع المقاومة اللبنانية في مواجهة المجتمع الدولي يبدو هدفاً يمكن له أن يحقق ما تم العجز عنه في سورية، أما ما هو أسوأ فيبدو الآلية التي يريد فيها الغرب الوصول إلى هذا الهدف: المقاومة في وجه الشارع؟!
بمعزل إن استند هذا الطرح يومها إلى معلومات أو تقاطعات للأحداث، لكنه ببساطة استند إلى ما هو أهم: الصدق الذي يتمتع به الأمين العام لحزب اللـه حسن نصر الله.
كان نصر اللـه قد تحدث قبلها بأيام مؤكداً ما سماه «سعي غربي للسيطرة على لبنان ببدعة ما يسمى القوات الدولية التي قد يتم إرسالها لمراقبة الحدود اللبنانية»، لكن المشكلة دائماً لا تبدو فيما يقوله نصر اللـه لكن بآلية تلقي ما يقوله، تحديداً عدم القدرة على التمييز بين كلامه الناتج عن «تحليل» وهو كلام قد يمتلك الشخص حرية الاقتناع به من عدمه تحديداً أن هناك كثر يضعون أنفسهم في صف الرافض لأي فكرة يطرحها حتى قبل أن يقولها، وبين الكلام الناتج عن «معلومات»، عندها على كلّ عاقل أياً كانت وجهة نظره بما يقوله نصر اللـه أن ينتبه نظراً للمصداقية التي يتمتع بها الرجل عند العدو قبل الصديق، وهو ما كرره في حديثه المهم قبل أمس الذي تناول فيه الأحداث المتصاعدة في لبنان، و«المعلومات» التي تتعلق بما يلي عملية الاستثمار بهذا الحراك، داعياً اللبنانيين للحفاظ على المكتسبات التي حققها الحراك لا لتهديم الهيكل على الجميع، وهي دعوة يبدو وكأنها تستند إلى معايير لا يجب تجاوزها:
أولاً: لا تبدو المقاومة بموقف الضعف حتى تلجأ لأسلوب التهويل مما يجري في المحيط، أو مما يتم الإعداد له في الداخل، اللجوء للتهويل كالقنابل الصوتية يلجأ إليها من لا يمتلك القدرة على التعاطي مع الأحداث أو مواجهتها ومواجهة تبعاتها، مع التأكيد أن الحديث هنا عن المواجهة السياسية السياسية، في حال اقتنع الجميع عملياً بالمكتسبات التي حقّقها الحراك من دون مصادرة حق الجميع بإبداء الرأي.
ثانياً: ليس هناك من خوف على جمهور المقاومة وبمعنى آخر ليس هناك إمكانية لأن نستيقظ غداً لنرى مثلاً فيديو تمثيلياً عن انشقاق مئات العناصر من حزب اللـه أو حتى المناصرين، هذا السيناريو نجح المروجون له عملياً في سورية مثلاً لكون التعاطي هناك مع دولة لإثارة شعور الرعب في صفوف المتمسكين بها لا أكثر، لكن هنا لن ينجح حكماً.
ثالثاً: ليس هناك من جوع عند حزب اللـه لما يسمى «السلطة» حتى إنه بقي خارج متاهات السلطة عندما كانت المظلة السعودية السورية تتعاطى مع التوازنات اللبنانية من مبدأ «المقاومة حق مشروع»، هذا الأمر ينسحب حتى إن حدث ما هو أبعد من إسقاط المتظاهرين لاتفاق الطائف، فماذا سيؤثر أمراء الحرب والفساد أو الخارجين من السجون بمراسيم عفو رئاسية على السياق العام لناخبي المقاومة مثلاً؟
على هذا الأساس تبدو التحذيرات التي أطلقها الأمين العام لحزب اللـه منطقية، تحديداً أن الأحداث في تصاعد مستمر وهناك تساؤلات جوهرية لا جواب عليها حتى الآن، فعند اندلاع أي حراك في هذا الشرق البائس دائماً ما يكون السؤال المنطقي: ما هو البديل؟
هناك من يتحدث دائماً عن «سرقة الثورات» أو «عسكرتها» لكن ليس هناك من يطرح أسباباً منطقية لتبدو فيه هذه الثورات هشة إلى الحد الذي يستطيع معه من يشاء أن يسرقها أو يعسكرها.
كان هناك من يعتقد أن المواطن العربي الذي عاش عقوداً من الديكتاتوريات وغياب العمل السياسي الحقيقي أو حتى غياب حرية الرأي هي السبب الأساسي في إخفاق ثوراته، لكن في الحالة اللبنانية تحديداً يبدو أن تحميل السلطات مسؤولية الفشل بالكامل فيه الكثير من التجني وبمعنى آخر: تختصر مقولة «في لبنان كثير من الحرية وقليل من الديمقراطية» المنسوبة لرئيس الوزراء اللبناني الأسبق سليم الحص الحالة اللبنانية، هذا الكلام يتجسد أمامنا اليوم لأن كثرة الحرية لا يعني عملياً إنتاج صيغ اجتماعية جامعة تحديداً عندما تكون تلك الحرية منفلتة من أي ضوابط أو ثوابت تمثل عقداً اجتماعياً تتأسس عليه الدول، وهي بذات الوقت لا تعبر عن الحالة الديمقراطية القادرة على خلق الوعي السياسي لدرجة إسقاط حكومات في الشارع على الطريقة الأوروبية.
هذا نوم في العسل عاشه المواطن اللبناني للأسف لعقود وهو يظن أن التلظي خلف الزعيم الإقطاعي أو الطائفي يقيه من حرّ الانجرار نحو ديكتاتورية الطوائف، وتناسى أن ديمقراطية انتقاد السلطة لا تعني ديمقراطية عندما تقف عند أقدام هذا الزعيم، أي أن حظوظ المواطن اللبناني بالقدرة على التغيير في حراك سلمي بعيد عن الأحزاب والتداخلات الخارجية تبدو أقل بكثير من حظوظ مثيلاتها في بلاد عربية كان كثر من اللبنانيين ينظرون إليها بفوقية على أنها مجتمعات درجة ثانية، والدليل ماثل أمامنا إذ لم يصمد الحراك لأكثر من ساعات حتى بات رموز الفساد والتطبيع مع الكيان الصهيوني هم حماته ورعاته، فهل بدأنا عملياً بمرحلة انتقال الحراك ليصبح مسرحاً للسيناريو الأسوأ؟
يبدو واضحاً من مجريات الأحداث أن الحراك بدأ يأخذ مناح مرسومة، عندما نقول مرسومة فهذا لا يعني أبداً أن هناك من خطط لبدء هذا الحراك لكننا نتحدث عن استغلال وجع الناس وألم الناس.
في سورية كما في لبنان كما في معظم الدول العربية كان هناك وجع إن كان على المستوى الاقتصادي أو الاجتماعي وربما حتى الجهات الرسمية تعترف بذلك، لكن هذا الوجع لا يمكن حلّه بإحراق المقرات العامة، ولا بالتعدي على حقوق الآخرين ولا حتى باللجوء لمن هم أساس هذا الوجع كأطباء إسعاف له، من يقوم بذلك يدفع لإفشال الحراك لسببين أساسيين:
أولاً: العامل الإقليمي، ففي هذا المحيط البائس هناك من لا يريد السماح بقيام ديمقراطيات بالحدود الدنيا، لأن هكذا ديمقراطيات تبدو عملياً أشبه بالمقتل لتلك الأنظمة المتخلفة أو كما كنا نسميها في أدبياتنا «الأنظمة الرجعية»، ولكن ألا تحنون لهذه التسمية؟!، فالأنظمة المنفتحة سياسياً تبدو مغلقة أمام هذه الأنظمة الرجعية وإن كان لبنان ما بعد اتفاق الطائف نقطة تجاذب جعلت الكثير من الأنظمة الرجعية تبني مكانةً على حسابه بل ويحلمون بتوسيع هذا المفهوم بالحدود العليا ليشمل دولاً ثانية على قاعدة «طائف سوري» أو «طائف عراقي»، فكيف لهم أن يسمحوا بخسارة لبنان نحو نظام حديث!
ثانياً، العامل الدولي: ربما أجاب نصر اللـه على هذا السؤال عندما قال لا تصدقوا الغرب بأنه لا يريد إسقاط الحكومة.
في الكثير من الأحداث المفصلية في لبنان كان هناك جزء لا يستهان به من اللبنانيين ينظرون إلى لبنان على أنه محور السياسة الدولية، البعض كان يظن أن الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي لا ينام لأن حياة «مسيحيي 14 آذار» في خطر، بعضهم الآخر كان يعتقد أن السفير الأميركي الأسبق جيفري فيلتمان من جذور فينيقية لن يسمح فيها بسيطرة «مواطني الدرجة الثانية» على لبنان، هؤلاء تناسوا السبب الحقيقي الذي يجعل لبنان هو المحور فعلياً: ألا وهو أنه سلاح المقاومة، فماذا ينتظرنا؟
إن الغرب يعي تماماً أن إسقاط الحكومة اللبنانية لن يأت بنتيجة وإلا كيف لهم أن يضمنوا الحكومة القادمة؟ باختصار إنها الفوضى أو الاستثمار في الفوضى بمعزل إن كان هذا السيناريو سينجح أم لا، وهل يكترث الغرب أساساً لفكرة النجاح من عدمه طالما أنه حوّل دولنا إلى حقول تجارب؟
الأسوأ لم يحدث بعد، لكننا عملياً في الساعات الأولى للبدء بتنفيذه، على هذا الأساس أخبروا يساريي الشاشات أن ربطات العنق والتنظير الثوري لن ينفعكم إلا كما نفع يساريي «الثورة السورية» عندما تحولوا لكتبة في ديوان الحسبة عند الخلفاء والأمراء، وإن كان لكل مجتمع «باستيله» الخاص فإن اقتحام الباستيل لا يعني بالضرورة أن الثورة تنتصر، تماماً كما أن الرقص أو الدبك على تأوهات الجائعين وأحلام الحالمين لا يعني أن الثورة تتقدم، هذا ليس زمن التنظير وليس زمن جلد الذات هذا زمن قول الحقائق كما هي، قال لنا نصر اللـه أغلبية الحقيقة، وترك لنا أن نتخيل الآتي، واهم من يظن أن المتآمرين سيتناسون مرمغة أنوفهم على الأراضي السورية واليمنية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock