مقالات وآراء

بومبيو في بيروت والعين على دمشق: لماذا الترويج الأميركي لنظرية الحرب المقدسة؟

يبدو أن سيدنا «جبريل» في إجازة، فقرّر وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو نزع وجههُ الشيطاني وتقمّص الوجه الملائكي ليخبرنا من «أرض الرب» بنبوءة «أن اللـه أرسل الرئيس الأميركي دونالد ترامب لحماية إسرائيل»، القضية هنا ليست عن حجم الجرائم في هذا العالم المجنون التي تُرتكب باسم الرب، القضية هي بالجنون الذي يدّعيه ذاك الذي يظن نفسهُ آتياً في جولةٍ إلى المنطقة بمشيئة الرب.
يبدو أن رحلة البحث عن المزيد من الضغط على سورية كبديلٍ عن إمكانية هزيمتها عسكرياً، وصلت عند الإدارة الأميركية إلى محطّتها الأخيرة والأهم لبنان.
القضية ليست فقط سلاح حزب اللـه أو تعبئة مناصري المقاومة في المنطقة بباخرٍة لنقلهم إلى تونس على طريقة فدائيي منظمة التحرير الفلسطينية في ثمانينيات القرن الماضي، القضية باختصار هي سلةٌ متكاملة يريدها الأميركي في سورية بدأها بمنع الانفتاح العربي عليها أو «عودة الجامعة العربية إليها»، وصولاً لتهديد الشركات التي تتعامل تجارياً مع الحكومة السورية، ولكي تكتمل هذه السلسلة لابد من وضع اللبنانيين أمام خيارات الرعب لتحقيق المشيئة الأميركية في سورية والتي ترتبط بمنحيين أساسيين:
أولاً: المنحى الاقتصادي
درجت العادة في السابق أن تكون سورية هي رئة لبنان لأنّها المنفذ البري الوحيد إليه، اليوم تبدو الآية معكوسة جزئياً إذ أن هناك اعتقاداً سائداً في الدول التي ترفع راية الحرب على سورية بأن لبنان اليوم يشكّل رئةً للسوريين باتجاهين:
الاتجاه الأول، وهو مرتبط بنقل البضائع التي يُمنع تصديرها إلى سورية مباشرةً، إذ يتم نقلها عبر لبنان ليقوم مستوردوها اللبنانيون بإعادة شحنها إلى سورية. ترى هذه الدول أن هذا التجاوز يُساهم في صمود الحكومة السورية في وجه المتطلبات الاقتصادية اليومية للشعب السوري، لكنها في المقابل تُبالغ نوعاً ما في توصيف الدور الذي يحققهُ مرفأ بيروت كمحطةٍ وسيطةٍ لنقل البضائع إلى سورية، تحديداً أن الجمارك اللبنانية ذات نفسها تعترف أن هناك ملايين من الدولارات يتم هدرها بسبب ادعاء التجار المستوردين أن هذه البضائع هي ترانزيت إلى سورية والحقيقة غير ذلك.
أما الاتجاه الثاني، فهو مرتبط بالمصرف المركزي اللبناني الذي تارةً ما يتم اتهامهُ بالتورط بتبييض أموال تابعةٍ للحكومة السورية وحزب الله، وتارةً بخرق العقوبات المالية الأميركية المفروضة على هاتين الجهتين، رغم النفي المتكرر لمصرف لبنان المركزي لكن الأميركيين لا زالوا يعيدون التذكير بخطورة هكذا تصرفاتٍ على لبنان واللبنانيين، تحديداً أن الأميركي اليوم لا يبدو أنه يتعاطى ببساطةٍ مع أثر العقوبات الاقتصادية الإيجابي على ما يريدهُ في سورية فقط، بل هناك ما هو أهم لاح له في الأفق جعلهُ يتشبث بهكذا طرح فكيف ذلك؟
قبل أسابيع خرج كلامٌ رسمي إيراني بأنه حان الوقت لجدولة الديون الإيرانية على سورية، يومها حدث انقسامٌ بين من رأى أن المطلب هو مطلب حق وبين من تساءل عن توقيت هكذا مطلبٍ بعد الاستقالة الاستعراضية لوزير الخارجية الإيراني جواد ظريف؟ حتى استماتة البعض للقول بأن هناك خطأ في الترجمة ذهب أدراج الرياح بسبب وجود التصريحات في المواقع الرسمية الإيرانية باللغة الفارسية، أي إن الأميركي يرى اليوم أن سلاح العقوبات والخنق الاقتصادي لن يؤديا فقط إلى خنق «النظام السوري» وتأليب القاعدة الشعبية عليه، بل سيتعداها لما هو أهم أي ضرب الحلفاء بعضهم ببعض.
كذلك الأمر فإن الأميركي قد يكون قد قرأ في بعض المطالب الإيرانية كطريقةٍ لإعادة جدولة الديون السورية نوعاً من ليّ ذراع الحليف للحليف، فمثلاً أن يطلب الإيرانيون أن تكون لهم حقوق تشغيل وإدارة محطة الحاويات في مرفأ اللاذقية هو حكماً خطأ اقتصادي ينتظره الأميركي بفارغ الصبر، لأن منح هذا الحق لشركاتٍ إيرانية تتعرض أساساً للعقوبات الأميركية سيعني تحويل الأنظار عن المرافئ السورية باتجاه مرفأ بيروت، وهو على المدى الطويل سيجعل السوريين يخسرون ما بنوهُ عبر عقودٍ في مجال النقل والترانزيت أهمها الكلفة الرخيصة للمرافئ السورية.
دائماً ما يُجيد الأميركي اللعب على التناقضات وهذه الحرب الاقتصادية التي يشنها الأميركي على الشعب السوري ويسعى فيها لاستخدام كل الوسائل الممكنة لتحقيقها، يبدو فيها لبنان آخر الدول التي يحتاج الأميركي لإيصال تهديداته إليها بشكلٍ مباشر تحديداً عندما يرى أن هذه الحرب بدأت تثمر في إيران وفي سورية.
ثانياً: المنحى العسكري والأمني
يعلم بومبيو أنه لم يكن ليستطيع خلال زيارته لبنان أن يتقمص شخصية وزير الخارجية الأميركي الأسبق عشية الاجتياح الإسرائيلي لبيروت الكسندر هيغ وبمعنى آخر:
هو لم يزر لبنان كما زارها هيغ والبلد مقطّع الأوصال والمتاريس موضوعة بين البناء والآخر، يومها كانت لدى الأميركي مساحة واسعة للتحرك بما فيها جذب قسمٍ من قادة الحرب اللبنانية للتهليل للاجتياح الإسرائيلي لبيروت. اليوم فإن بومبيو زار لبنان وهو بالحدّ الأدنى متماسك، والأميركي لا يمتلك الأدوات القادرة لقلب المعطيات على الأرض إلا إن كان هناك من أقنعهم أن تغريدات سامي الجميّل ستغيّر من توازنات المنطقة. أما النقطة الأهم فهي التبدل في آلية تعاطي حزب اللـه مع الشأن الداخلي، فالحزب الذي كان يرفض عملياً الدخول في متاهات اللعبة السياسية يوم كان رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري يشكّل نقطة توازنٍ موثوقة بين القوى الإقليمية، بات اليوم يمتلك نواباً منتخبين قادمين من قاعدةٍ شعبيةٍ لا يستطيع أحد أن ينكرها إلا النائب المطرود من تيار المستقبل مصطفى علوش، ووزراء هم جزء من حكومةٍ يعترف بها العالم أجمع باستثناء السيادي فارس سعيد، هذه التبدلات جعلت مهمة بومبيو في لبنان بما يتعلق بحزب اللـه مستحيلة، فلا عودة للحرب الأهلية والحزب الذي لم يُسامح أحد نوابه عندما اعتبره «تجاوز حالة التهدئة الداخلية» لن يسمح أبداً بدخول لبنان في المحظورات.
هذا الفشل ربما سبق زيارة بومبيو قبل أن تبدأ، لكن وعند بدء الزيارة بدا واضحاً أن الأميركي وقع في الفخ الذي أرادهُ للمقاومة، في الإطار العام أخطأ بومبيو عندما التقى وزيرة الداخلية اللبنانية قبل اللقاء بنظيره جبران باسيل، ربما الخطأ مقصود والمستهدف منهُ ليس باسيل، فالرجل بالغ عدة مراتٍ بتقديم أوراق اعتماده للأميركيين كرئيس محتملٍ قادم عندما غازلهم من نقطة «حق إسرائيل في الوجود»، فالمستهدف هو الرئيس ميشيل عون الذي يرى فيه الأميركيون السبب بإعطاء المقاومة الغطاء المسيحي الأهم الذي تفتقده، أي إن صلابة ميشيل عون هي التي انعكست على جدية جبران باسيل في الرد على اتهامات نظيره الأميركي لحزب الله، وبمعنى آخر:
فشلت زيارة بومبيو فشلاً ذريعاً بخلق حالةٍ من تخويف اللبنانيين تؤدي لزعزعة التحالفات، والأهم من كل هذا أن الأميركي لم يبق لديه من سلاحٍ في لبنان باستثناء «اللوك الجديد للمهاتما سمير جعجع» إلا مسألة منع عودة النازحين، ومن الواضح أن قرار عودتهم ممنوع بالحدّ الأدنى حتى إنجاز الانتخابات الرئاسية السورية القادمة فماذا ينتظرنا؟
إن الإفشال الكامل للحرب الاقتصادية على سورية بحاجةٍ لإعادة مراجعة دقيقة للبناء على مقومات الاستمرار بالصمود، ليس في الإطار الرسمي السوري فحسب بل بما يتعلق بالحلفاء أيضاً. أما إخفاق ما يريده الأميركي من لبنان فقد يقودهُ للعودة إلى أسلوب الاغتيالات المتنقلة في هذا البلد، ربما هو سيناريو متوقع لكنهُ ليس الأخير وبمعنى آخر:
نعود للحرب الأهلية اللبنانية وما تلاها من تفجير مركز المارينز ليسقط عدد كبير من قتلى نخبة القوات الأميركية والفرنسية، اللافت أن هذه الحادثة لا تزال مجهولة الجهة التي قامت بتنفيذها بالوقائع والأدلة وليس بالاتهام، واللافت أيضاً أن هناك استبعاداً تاماً لتورط جهةٍ أرادت أن تصفع الرئيس الأميركي رونالد ريغان لطلبه من الإسرائيليين يومها وقف تقدمهم لمنع اتساع رقعة الحرب رغم معارضة وزير خارجيته الكسندر هيج لهذا التوجه وانتهى به الأمر للاستقالة فهل تتكرر قضايا التوريط التي هي أسوأ من الاغتيال؟
نحن حالياً بمرحلةٍ من الحرب يبدو أنها من أخطر ما نواجه، لأنها عملياً صراع الأُصلاء مع الأُصلاء ولا دور للوكلاء، هذا التشابك الدولي في هذا الشرق البائس تبدو فيه كل الخيارات مفتوحة، لدرجة أن الأميركي استدعى فيها حتى نظرية «الحرب المقدسة» عندما تحدث بومبيو كـ«مسيحي» عن دور دونالد ترامب المنوط به الهياً بحماية أمن «إسرائيل»، فيما لا يزال البعض من الذين سموا أنفسهم «نُخباً مثقفة» يرون بأنهُ لولا الفساد والتخبط وعدم تطبيق العلمانية لما حدث لسورية ما حدث، أما النخب الأكثر حنكة فهي لا تزال تحاول إقناعنا أن ما جرى هو بسبب «أنبوب أو حقل غاز»، باختصار كلا الطرفين كما الذين انتظروا سقوط سورية.. يستحقون الشفقة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock