مقالات وآراء

بين الأسطورة الدينية وديمقراطية إسرائيل: «مملكةُ الرب» بحاجة إلى ذبيحة

يومَ الخميس الماضي، أعلنَ المدعي العام الصهيوني توجيهَ الاتهام رسمياً لرئيسِ وزراء العدو بنيامين نتنياهو في ثلاثِ قضايا تتعلقُ بالفساد، اتهامات أكّدت أنَّ نتنياهو لا يعيش أفضلَ أيامهِ وهو يرى كيفَ يتَّجه بنفسهِ رويداً رويداً نحو المصير ذاته الذي لاقاهُ سلفهُ إيهود أولمرت، السجن بأفضلِ الأحوال، أو انتهاءَ مستقبلهِ السياسي إلى الأبد.
في عالِمنا العربي قد نبدو أمامَ مفارقةٍ عندما نتحدث عن قضيةٍ تتضمن عملياً محاكمةَ من هم بالسلطة في الدول والكيانات المعادية، حيث يبرعُ الكثير من «المثقفين» العرب أو الجماهير التي ما زال هناك من ينتظرها لتُحرِّر لهُ القدس أو تستعيدَ لهُ كذبة «الأمن القومي العربي» للانتقالِ بالخبر إلى منحى مُغاير من قبيل: بدَلَ الشماتة بنتنياهو عليكُم البكاء، لأن في دولنا لا أحد يُحاكِم أحداً رغمَ الفساد الذي يلفنا، وبدلَ السخرية من إسرائيل وديمقراطيتها تذكروا أن القائمةَ العربية اليوم في الكنيست هي من منعَت نتنياهو من تشكيلِ حكومة جديدة بتحالفها مع اليسار الإسرائيلي، فيما المواطن العربي لا يعرف كلمةَ صندوق إلا لنقل الخُضار والفواكه.
بواقعيةٍ تامة نتَّفِق مع كل من يطرح مشاكلنا حزناً على اتساع الهوة بين حكوماتنا والشعوب في هذهِ المنطقة، لكن الطرح الذي ينطلق من فرضية المقارنة مع الكيان الصهيوني هو طرحٌ يسيء لمشاكل المواطن العربي ولا يخرج عن سياق العبارة الشهيرة: «كلام حق يُرادُ به الباطل»، إذ كيفَ لدولةٍ تدَّعي إنها ديمقراطية وبذات الوقت قامت أساساً على فكرةِ إنها دولة احتلال تتجه رويداً لتصبحَ دولةً دينية بأسس عنصرية؟ أما الحديث عن وجودِ الكتلة العربية في قلبِ الكنيست فهذا الكلام لا يعني دفعة إضافية للإشادةِ بديمقراطية هذا الكيان، على العكس لأن السؤال المنطقي عندها: من أين جاءَت هذه الكتلة العربية ومن هم السُّكان الذينَ تُمثلهم؟
إن كذبةَ الديمقراطية هي كذبة كبيرة حتى في أعتى الديمقراطيات، فكيف بالدول التي تنتهج «التّدين السياسي» بمختلفِ تجلياته، هي ومن دون استثناء دول وكيانات فاشلة وتوسعية مهما أبدَت العكس، تعتاشُ على إذكاء روح الفوضى عند الآخرين، وفي ما يتعلق بـإسرائيل تحديداً، وانطلاقاً من فرضية «شعب الله المختار» وما أكثر شعوبَ الله المختارة في هذا الشرقِ البائس، فإن ما يجري من جوجلةٍ سياسية يحوِّل هذا الكيان إلى «مملكةٍ للرب» كما وردَ في أكاذيبهم الدينية، هذهِ المملكة ولكي تبقى على قيدِ الحياة تبدو بحاجةٍ دائمة إلى ذبيحةٍ، فهل الدور الآن على بنيامين نتنياهو؟
إن الإجابةَ عن هذا السؤال تفرض علينا ثلاث مراجعاتٍ رئيسية للمسار السياسي الذي انحدر سلبياً في الكيانِ الصهيوني بعدَ أن طبعَ نتنياهو ببصمتهِ على مسار الأحداث خلالَ العقد الأخير:
أولاً: إخفاقَ نتنياهو بتبني سياسة المواجهة العسكرية المباشرة التي بُني على أساسها الكيان الغاصب.
بعكسِ تصريحاته ذات اللهجة المرتفعة دائماً تارةً بشن الحرب هنا وتارةً بضربِ مواقع هناك، إلا أن نتنياهو نظرياً يمثل بمفهوم التطلع للحروب والدماء التي تمثله دولةَ الاحتلال ظاهرة صوتية لا أكثر، على هذا الأساس ابتدع فكرة الإكثار من الضربات المركزة في سورية للهروب من فكرةِ الحرب المباشرة التي كان يتعطش لها اليمين المتطرف.
أكثَرَ من ذلك، هناك من لا ينسى لنتنياهو إسراعهُ بطلب التفاوض لوقف إطلاق النار بعد أيامٍ فقط من الحرب على غزة 2014، كذلك الأمر هناك من لا ينسى أن نتنياهو تغاضى بجبنٍ عن الكثيرِ من الفرص التي كانت قائمة لشنِّ الحرب منها مثلاً إسقاط الدفاعات الجوية السورية للمقاتلة الإسرائيلية 2018، ونتنياهو يخشى الحرب لأنهُ ببساطة يخشى تداعياتها عليه، هو سعيد بهذا الستاتيكو الذي يبقيهِ رئيس وزراء مع بعض الطلعات الجوية لضربِ أهدافٍ في سورية من باب التسويق الإعلامي، لكن هذه القصص لم تعُد تصرف في سوق الكيان المتعطش لإنهاء أعدائهِ في سورية ولبنان واستنزافهم، وهو أساساً يتعارض مع عقيدة التفوق التي قام الكيان على أساسها.
ثانياً: تفضيله للمصلحة الشخصية على حساب «دولة إسرائيل».
رُبما يحسب البعض في الكيان الصهيوني لنتنياهو إنقاذهُ لحزب الليكود بعد انشقاقِ أريئيل شارون عام 2005 وتشكيلهِ حزب كاديما، يومها هناك من تنبأ برحيل تركة الحزب نهائياً وانزياحَ أعضائهِ نحو اليمين الديني المتطرف، لكن نتنياهو أثبت للجميع أن دولة كإسرائيل لا فرقَ فيها بين يمين ويمين متطرف ولا حتى يسار، فالجميع يتبنى ذات الفكر الإجرامي، فاستعاد الزخم الانتخابي للحزب بُعيد السيطرة عليهِ وجعله في السلطة طوال عقدٍ كامل، وهذا النجاح وإن وسّعَ النقمةَ الداخلية ضدهُ لكنه ببساطةٍ حولهُ رسمياً إلى آخرِ رئيس وزراء له هذا التاريخ القوي، ليبدو حاجة للكيان لا يمكن الاستغناء عنها وسط ضعف وترهل المعارضين.
بذات الوقت ومع هذا النجاح فإن نتنياهو بنى شبكة من العلاقات المتشعِّبة ليس فقط في الداخل الإسرائيلي بل في الخارج أيضاً، فإسرائيل في سنواتِ حكمه شهدت ما لم تشهدهُ من انفتاحٍ وتطبيعٍ وصل حتى «دولةَ خادم الحرمين»، هذا دون نسيان ما جرى في المنطقةِ العربية من تبدلاتٍ خلال «ربيع الدم العربي» حاول خلالها نتنياهو أن يكونَ الرقم الصعب في المنطقة، هذا الكلام بدا واضحاً من خلالِ تهوره في دعمِ هذا الربيع أو الحراك هنا وهناك، فمثلاً هناك من لامهُ كثيراً على ظهورهِ بفيديو لدعم الاحتجاجات في إيران عام 2017 لأنه ببساطةٍ أعطى الذريعة للإيرانيين بسحق الاحتجاجات، هذا كله كان على أساس بناءِ مجده الشخصي وهو ما جعلهُ يدفع الثمن.
ثالثاً: تحدي الروس بعصا الرئيس الأميركي دونالد ترامب.
تدرك الطبقة السياسية في الكيان الصهيوني أن نتنياهو تجاوزَ كل الخطوط الحمراء في التعاطي مع الروس وصلت حدَّ التهور، وعلى الرغمِ من التعاطي الروسي الهادئ مع هكذا تجاوزات، إلا إنه من الواضح أن الروس وتحديداً في ما يتعلق بالعلاقة مع نتنياهو تصرفوا بصورة معاكسة لما يقولونهُ في التصريحات الدبلوماسية. هذه الفكرة أثبتتها الوقائع فهناك في الكيان الصهيوني كثر لم يلوموا الروس على تسليمِ الجيش العربي السوري بطاريات الصواريخ «إس300»، بقدرِ ما لاموا نتنياهو واعتبروه هو من دفعَ بحماقته الروس لهكذا تصرف عندما أُسقطت الطائرة الروسية أمام السواحل السورية قبل عامٍ تقريباً.
لكن نقطةَ التهور تلك لا تبدو عملياً متعلقة فقط بالعلاقة مع الروسي، لكنها تعود كذلك الأمر لزمن الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، وما وصلت عليهِ العلاقة مع دونالد ترامب فكيف ذلك؟
إن العلاقة التي كانت توصف زوراً بالمتوترة بين نتنياهو وأوباما، كان محور اهتزازها هو الاختلاف على الأساليب التي ستتحقق فيها مصالح الكيان الصهيوني، وليس حتميةَ تحقيقها. كانت وجهة نظرِ الديمقراطيين ولا تزال تقوم على إن اتفاقاً نووياً مع إيران وجعل المنطقة تحلق بجناحين، سني وشيعي، عمادهُ تركيا وإيران، سيمنح الأمان لدولة إسرائيل لتلتحق بها باقي الدول المحيطة بفلسطين المحتلة بعد تعويم فكرة «الإسلام السياسي» كنظام حكم، ونتنياهو ضمنياً كان موافقاً على هذا الكلام لأنه ببساطة كان يعي تبعات الحرب المباشرة، سقط الديمقراطيون في الانتخابات الرئاسية وحسناً فعلوا لتسقط معَهم هذه الفرضية، واليوم فإن الجميع فيما يبدو بانتظارِ تقطيع الوقت حتى انتهاء الانتخابات الأميركية القادمة دون التفكير: ماذا لو لم يسقط ترامب؟ تحديداً إن ثنائيةَ ترامب نتنياهو بدت كارثية لإسرائيل.
لا يختلف اثنان أن هناك في الدول الفاعلة في العالم من يؤمن بأن هناكَ خط توازناتٍ على جميع الأفرقاء احترامهُ، بمن فيهم من يتراءى لهم إنهم مستفيدون من تجاوزه. نتنياهو لعبَ على هذه الجزئية عبرَ صهرِ الرئيس الأميركي جاريد كوشنير الذي بدا واضحاً أنه يفتقد للخبرة في التعاطي مع الملف الإسرائيلي في المنطقة، واستحصل من ترامب على الكثير من القرارات الصورية التي لا تفيد إسرائيل بشيء كالاعتراف بالقدس عاصمة للكيان، ثم المصادقة على قرار ضم الجولان السوري المحتل، لنصلَ إلى شرعنةِ المستوطنات في الضفة الغربية، على هذا الأساس لا يبدو أن كل هذهِ الإنجازات الفردية لنتنياهو قادرة اليوم أن تنتشلهُ من إحكام الحلقة ضده، تحديداً بعدَ رفض كل من يمكننا تسميتهم «أصدقاء إسرائيل» تبني هكذا قرارات أو الاعتراف بها، فماذا ينتظرنا؟
من الواضح أن قرارَ التخلص من نتنياهو باتَ قراراً تجاوز عملياً حدود فلسطين المحتلة، أهمية هذا التخلص لا تأتي من فرضية انتظار الأفضل، وهل هناك مفاضلةٍ بين المجرمين؟ أهميةَ التخلص من نتنياهو ستظهر عندما تكون دولة الكيان فعلياً بحاجة للهروب من مشاكلها الداخلية بالحرب، هل هناك من سيجرؤ؟ كل الاحتمالات تبدو مطروحة فليسَ نتنياهو من يستسلم بسهولة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock