مقالات وآراء

تركيا ومفترق الطرق

يبدو أن المشهد السياسي والظروف الإقليمية وما شهدته من متغيرات وتطورات متسارعة، وضعت تركيا أمام مفترق طرق، بعد أن حاولت الأخيرة الحفاظ على تموضعها الوسطي بين القوى الكبرى، فهي لم تبد أي رغبة في التخلي الكامل عن روابط علاقاتها مع الغرب ولكنها لم تندرج تحت طوعية وتوجهات أوروبا التي لم تصل حد العداء المباشر مع الولايات المتحدة الأميركية على الرغم مما تنتهجه من سلوك ندي سياسي في بعض الملفات الشائكة، ورغم اتهام أنقرة لواشنطن في أكثر من توقيت سياسي بالعبث بأمنها الداخلي، كمحاولة الانقلاب في تموز 2016، أو بخلخلة نظامها الاقتصادي، فإن تركيا في الوقت ذاته تقترب من روسيا وإيران وتمتن علاقاتها مع دول آسيا الوسطى والصين بما يحقق مصالحها ويفعل تأثيرها ونفوذها، مستثمرة خريطتها الجغرافية لتحسين تموضعها ودورها السياسي أولاً وزيادة مقومات قوتها واستقلاليتها ثانياً، وخاصة أن تركيا استندت في تحسن هذا التموضع السياسي إلى عاملين:
الأول: استغلال ما ترتب من هامش مناورة أو مساحة خلقها تصاعد وتيرة الصراع الأميركي الروسي ومسارعة كلتا الدولتين إلى جذب تركيا لمصلحتها وضمن اصطفافها ما من شأنه تغيير موازين القوى نتيجة أهمية موقعها وأهمية تأثيرها.
الثاني: تدخل تركيا في معظم الأزمات والملفات الإقليمية وهذا كان نتيجة اقتراب الموقع الجغرافي التركي وتمركز قيادة الإيديولوجية الإخوانية في أنقرة.
مؤشرات القوة هذه التي امتلكتها تركيا خلال الفترة السابقة أصبحت اليوم عبئاً بدأ يرتد عليها بشكل سلبي وخاصة في ظل عدم القدرة على تنفيذ كامل أجنداتها الخارجية، الأمر الذي منح حلفاءها في الطرفين المتناقضين، أدوات تأثير عليها، بمعنى آخر تشهد تركيا اليوم واقع تحولها من فاعل سياسي مؤثر على المستوى الإقليمي إلى فاعل مؤثر فيه، نتيجة ارتداد سلبية توجهاتها الخارجية على سياستها الداخلية، الأمر الذي يضع تركيا بصورة عامة وحزب العدالة والتنمية بصورة خاصة أمام تحديات في مواجهة التحولات والتطورات على الصعيدين الداخلي والخارجي، والتي قد تؤثر بصورة أو بأخرى في منظومة الحكم وشكله وتوجهاته مستقبلاً.
أبرز هذه التحديات التي تمثل انعكاساً حقيقياً لسلبيات السياسة الخارجية التركية خلال السنوات السابقة وخاصة منذ اندلاع ما يسمى «الربيع العربي» هي التحديات المتمثلة داخلياً، والتي تنقسم بدورها إلى شقين:
1. الشق الأول يمكن تسميته داخلي داخلي: والمتعلق ببنية حزب العدالة الآخذة بالتصدع. نتيجة التوجه التسلطي للرئيس رجب أردوغان وانفراده باتخاذ القرارات واتباعه سياسة الإقصاء لجميع النخب والقيادات الحزبية والتي تشكل محور تهديد له داخل الحزب والسلطة في آن واحد، وهذا كان له بالغ الأثر إلى جانب تردي الأوضاع الاقتصادية وتضييق الحريات في الصفعة المؤلمة التي تلقاها أردوغان وحزبه أثناء الانتخابات المحلية الأخيرة، وخاصة الانتخابات المعادة في مدينة إسطنبول.
فما يشهده «العدالة والتنمية» من زيادة عدد أعضائه المنسحبين، مليون انسحاب وفق التقديرات، وتوجيه الاتهامات لأهم أركانه مثل عبد الله غول وأحمد دواوود أوغلو إضافة إلى أربع قيادات كمقدمة لفصلهم من الحزب، يضع الحزب أمام تحديين الأول: مدى قدرته على إنتاج نخب حزبية على مستوى هؤلاء والحفاظ على عدد أعضائه، وثانياً مدى قدرة العدالة والتنمية على التفرد بالسلطة ومواجهة أحزاب المعارضة في حال انضمام هؤلاء لصفوفها أو إنشاء تكتل وتحالف انتخابي معهم.
2. الشق الثاني من التحديات الداخلية يتمثل في قدرة الحكومة التركية على مواجهة تأثير أي عقوبات اقتصادية جديدة من المحتمل أن تفرضها واشنطن وخاصة في حال انهيار اتفاق ما يسمى المنطقة الآمنة أو ذهاب تركيا بعلاقات إيجابية مع روسيا واحتمال عودة علاقاتها مع دمشق.
أما على صعيد السياسة الخارجية فهناك جملة من التحديات التي تواجه تركيا ابتداء من العلاقة مع الاتحاد الأوروبي وصولاً للعلاقة مع واشنطن مروراً بمدى قدرتها على ديمومة العلاقة مع روسيا وغيرها من التحديات المتمثلة في سياستها التدخلية بالدول المجاورة وصراعها الإيديولوجي مع السعودية وقضايا الغاز في المتوسط والخلاف مع اليونان والتنافس حول زيادة النفوذ مع إسرائيل وغير ذلك الكثير.
ولكن بالتأكيد فإن الملف السوري يشكل بهذا التوقيت أبرز التحديات أمام أردوغان، ولاسيما أن الأمن الداخلي التركي أصبح وسط دائرة الاستهداف المحتمل نتيجة تأثره بالأزمة السورية وتعنت النظام التركي على ثلاثة معايير في التعامل مع هذه الأزمة، الأول رفض التنسيق مع دمشق واستمرار معاداتها، والثاني الرغبة في العدوان العسكري وقضم أجزاء من الجغرافية السورية، والثالث الاعتماد على التنظيمات الإرهابية لتنفيذ سياساتها في سورية.
فالاستحقاقات التي تنتظر تركيا في سورية باتت اليوم تمثل تهديداً لها وهذا يتمثل في: انتهاء هدنة 8 أيام المتفق عليها بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وأردوغان من دون قدرة أنقرة على تنفيذ التزامها بحل هيئة تحرير الشام وفتح الطريقين الدوليين إم4 و إم 5 سيضعها أثناء اجتماع رؤساء الدول الضامنة لمحادثات أستانا في موقف محرج أمام الضامنين الآخرين، وهذا سيدفعها إما لتقديم تنازلات أو القبول بالأمر الواقع فيما يتعلق بتشكيل اللجنة الدستورية وكذلك الاستمرار بالعمل العسكري للجيش السوري، وهذا سيشكل عبئاً أمنياً عليها سواء بإقدام التنظيمات الإرهابية على عمليات انتقامية منها داخل خريطتها الجغرافية وهذا السلوك سيكون مدعوماً سعودياً وإماراتياً كرغبة في الانتقام، أو بدفع واشنطن لإعادة تأثيرها في هذه المجاميع لاستهداف أي اتفاق أو تنازل تركي محتمل مع روسيا حول إدلب، من دون أن نغفل أن تركيا قد تسعى لكسب المزيد من الوقت أثناء هذا الاجتماع لمعرفة مصير اتفاقها مع أميركا حول ما يسمى المنطقة العازلة والذي من شأنه في حال نجاح تنفيذه أن يعيد توحيد الجهود بين الطرفين للتوجه نحو إدلب والقيام بعمليات ضد الجيش العربي السوري عبر المجموعات المسلحة وقسد لاستعادة ما تم تحريره، أو أن يزيد من التعاون التركي الروسي في حال فشله.
هذا يقودنا للاستحقاق والتحدي الثاني والمتمثل فيما يسمى المنطقة العازلة أو الآمنة، والخاضعة بطبيعة الحال للتجاذب الأميركي التركي القائم على تناقض المصالح والأهداف والغايات لهذه المنطقة، ويبدو حتى هذه اللحظة أن هذا الاتفاق «هش»، وما يؤكد ذلك إقرار أردوغان باختلاف الرؤى والمصالح بين الدولتين حول هذه المنطقة والتهديدات التركية المستمرة باللجوء لخطط وخيارات خاصة بأنقرة أي «العمل العسكري المباشر»، وهذا قد يكلف تركيا الكثير من الأثمان البشرية والمادية وخاصة أن واشنطن قد تقدم على فرض عقوبات اقتصادية بشكل أوسع، كما هدد الرئيس الأميركي دونالد ترامب سابقاً، فضلاً عن تحرك عناصر حزب العمال الكردستاني التركي في الجنوب التركي، والخسائر الفادحة التي قد يتلقاها الجيش التركي وحلفاؤه من ميليشات غصن الزيتون ودرع الفرات نتيجة امتلاك قسد لأسلحة نوعية وخبرة قتالية امتلكتها خلال السنوات السابقة، واحتمالية تعاون الأخيرة مع دمشق للتصدي لهذا العدوان ووقوف روسيا وطهران لجانبها.
أما الملف الثالث فهو ملف اللاجئين السوريين، والذي شكل طوال سنوات الحرب على سورية أداة استثمار وابتزاز سياسية واقتصادية بغطاء إنساني من أنقرة، فالأخيرة رغم أنها حصلت على دعم دولي بمقدار 6.6 مليارات يورو من أوروبا وحدها، ورغم تجنيسها لقرابة 90 ألف سوري من أصحاب الكفاءات العقلية ورجال الأعمال، وتوظيف قسم لا بأس به من اللاجئين البقية بضمهم للتنظيمات الإرهابية، تحاول اليوم أن تستخدمهم كحصان طروادة لإقامة ما يسمى المنطقة الآمنة وتقديم وعود لهم ببناء كتل ومنظومة اجتماعية تعتمد على الرفاهية الاقتصادية على غرار ما فعلته شمال قبرص 1974، وربطهم بالولايات التركية كمقدمة لدفعهم بعد إحداث التغيير الديموغرافي للمطالبة بالاستقلال عن دولتهم الأم سورية، هذا الملف قد يتحول لقنبلة موقوتة تفجر الأوضاع الداخلية التركية.
وخاصة في حال استكمال الجيش العربي السوري عملياته في إدلب أو في حال عدم ترجمة الاتفاق مع واشنطن، ففي كلتا الحالتين تركيا ستعاني من ضغط كتلة بشرية لديها ولاسيما في حال توقف تقديم الدعم الدولي والأوروبي.
المرحلة القادمة من أكثر المراحل التي يمكن وصفها بأنها مصيرية لتركيا وحزب العدالة والتنمية، فاشتداد الصراع بين واشنطن وموسكو وضيق مساحات المناورة الميدانية سيجبر أنقرة للتخلي عن وسطية التموضع نحو أحد القطبين، هذا إن لم يتغير هذا التموضع نتيجة التغييرات الداخلية في حال انقلاب المشهد ووصول المعارضة إلى السلطة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock