مقالات وآراء

تواضع المنتصر

أثارت زيارة الرئيس السوداني عمر حسن البشير ردود أفعال عديدة في العالم، ولكنني لم أرصد ردود فعل سلبية، أو إدانة للزيارة، وهو ما يؤشر إلى أن وراء الأكمة ما وراءها، وأن الأمور يجري الإعداد والتحضير لها منذ فترة ليست بالقصيرة على خلفية التحولات الميدانية الكبيرة، وهزيمة مشروع الفاشية الجديدة على صعيد المنطقة، والذي أسقطته سورية وحلفاؤها بشكل واضح جداً لا لبس فيه.
عادة ما تتم إعادة النظر في كل المواقف على خلفية سقوط مشروع كبير بحجم الحرب على سورية، وهذا شيء طبيعي ومنطقي على خلفية تطور الأحداث وتسارعها خلال عام 2018 وما قبله، وإسقاط كل الخيارات والمحاولات التي جرى العمل عليها لكسر إرادة سورية وشعبها وقائدها.
والحقيقة أن مؤشرات عديدة كانت تشي بهذه الزيارة المفاجئة للبعض وغير المفاجئة لمن يستطيع قراءة دلائل عديدة كانت تمهد لذلك، ومنها:
– تعمد وزير خارجية البحرين إجراء اللقاء العابر، «لقاء العناق»، مع نائب رئيس الوزراء وزير الخارجية والمغتربين وليد المعلم في أروقة الأمم المتحدة، حيث تفيد المعلومات أنه كان قد دعا الصحفيين شخصياً لتصوير هذه اللقطات.
– لم يتوقف الأمر عند تلك اللقطات بل أضاف الوزير البحريني آنذاك تصريحاً عبر قناة «العربية» السعودية أكد فيه الحرص على سورية ووحدتها، وضرورة عودة سيطرة الحكومة على كامل الأراضي السورية، وإعادة اللاجئين السوريين إلى وطنهم، مؤكداً أنه يجب التعاطي مع الدول لا مع من يحاول إسقاطها، وأن الحكومة السورية هي «حكومة سورية».
– المعلومات الإعلامية التي تحدثت عن إعادة افتتاح سفارة دولة الإمارات العربية المتحدة في دمشق، ومؤشرات ذلك كثيرة على الأرض.
– زيارة الوفد البرلماني الأردني إلى دمشق ولقاؤه الرئيس بشار الأسد، والرسائل التي نقلها، وحملها بالاتجاهين.
– فتح معبر نصيب الحدودي بين دمشق وعمان، والردود الإيجابية التي تركها في الشارع الأردني.
– لقاءات صحفية أجراها الرئيس بشار الأسد مع صحف خليجية من الكويت وعُمان.
– انفتاح العديد من الاتحادات المهنية العربية والنقابات وعقد مؤتمراتها في دمشق، وآخرها اتحاد الصحفيين العرب.
– انقلاب في التصريحات السعودية من مهلة إسقاط النظام والرئيس، إلى مرحلة إعلان ملك السعودية سلمان بن عبد العزيز أن المملكة تدعم الحل السياسي في سورية، وعودة الأمن والاستقرار.
– توجيه ما يسمى «البرلمان العربي» في 14 كانون الأول الجاري، دعوة لجامعة الدول العربية من أجل إعادة سورية إلى العمل العربي المشترك حسب ما نقلت وكالة أنباء الشرق الأوسط المصرية قبل أيام، معتبراً أن ذلك يسهم في تحقيق الحلول السياسية التي تمكن الشعب السوري من تحقيق وحدته على أراضيه، ومن العيش الآمن بما يجمع قواه الوطنية، مؤكداً الوقوف إلى جانب الشعب السوري في أزمته التي يمر بها.
– بعض المصادر العراقية التي تحدثت عن تحضيرات لزيارة سيقوم بها الرئيس العراقي برهم صالح إلى دمشق قريباً.
– حديث مصادر تونسية تفيد أن الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي سيوجه دعوة للرئيس بشار الأسد لزيارة تونس، وحضور القمة العربية في شهر آذار المقبل، وأن وزير الخارجية التونسي سينقل هذه الدعوة للرئيس بشار الأسد.
– اللقاء المطول الذي تم بين الرئيسين البشير والمصري عبد الفتاح السيسي في القاهرة قبل زيارة الأول المفاجئة إلى دمشق.
هذه هي المؤشرات الظاهرة لنا، والتي نستطيع الحديث عنها، وقد يكون ما هو مخفي أكبر وأعظم، وفي كل الأحوال فإن هذه المؤشرات وغيرها انعكاس حقيقي لانتصار سورية الكبير في حربٍ شنت عليها منذ ثماني سنوات، وما يحصل ليس سوى الارتدادات الأولى لتباشير هذا النصر الكبير التي بدأت تثمر في أكثر من منحى، منها:
– تشظي محور العدوان على سورية وتجلى ذلك في خلافات خليجية خليجية، وصراع سعودي إماراتي مع تركيا، ومأزق تركيا في سورية، وخلافات أميركية مع حلفائها، وابتزاز أميركي لهم بعد الانكسار، وهزيمة المشروع السعودي في اليمن، وصراعات أميركية أوروبية، وهزات داخلية في الدولة الأوروبية وغيره الكثير.
– ارتدادات دعم الإرهاب على الدول الممولة والداعمة له، وبدء الخوف من عودة هؤلاء إلى بلدانهم، لا بل رفض إعادتهم إليها.
– صعود محور المقاومة وخياراته على صعيد المنطقة.
– تثبيت روسيا لنفسها عبر سورية كلاعب دولي لا يمكن تجاوزه في سورية والمنطقة وتثبيتها لمعادلات دولية عبر دمشق.
– تراجع الولايات المتحدة عن مواقفها السابقة من «رحيل الرئيس الأسد وإسقاط النظام» إلى ما قاله جيمس جيفري موفد الرئيس الأميركي دونالد ترامب بالشأن السوري إلى أن واشنطن لم تعد تريد إسقاط الرئيس، وإنما تريد تغيير سلوك النظام حسب زعمه.
– الإعلان التركي من الدوحة على لسان وزير الخارجية مولود جاويش أوغلو من أن تركيا سوف تتعامل مع الرئيس بشار الأسد إذا فاز في انتخابات حرة وديمقراطية ونزيهة!
والطريف هنا: وكأن تركيا لا تتعامل إلا مع المنتخبين ديمقراطياً وبنزاهة! بغض النظر عن كل ذلك فهذا التصريح هبوط تدريجي من أعلى الشجرة لابد أن نتحمله، لأنك تحتاج أحياناً لمساعدة الخصوم على حفظ ماء الوجه لإيجاد التسويات.
ما من شك أن نهاية العام الحالي والعام القادم سيشهدان تطورات متسارعة تعبر عن معجزة ما أنجزه السوريون خلال ثماني سنوات من صمودهم، وصبرهم الذي لا يمكن وصفه والتعبير عنه، والذي أذهل الكثيرين، ويحتاج للقراءة العميقة والدقيقة للأسباب التي تقف خلفه، وهي بالمناسبة بسيطة وتكمن في أن من خطط لهذه الحرب الفاشية غاب عن باله عامل أساسي، وهو أن السوريين كانوا يخوضون حرباً وجودية لا مجال للهزيمة فيها، ولهذا صمدوا صموداً أسطورياً سيكتب عنه الكثير.
أما كيف ستتعاطى دمشق مع العائدين والتائبين ومع الذين جلسوا على التلة لسنوات يرقبون نتائج هذه الحرب المفصلية على صعيد المنطقة والعالم، فهو تعاطي «تواضع المنتصر» الذي لا يحمل ضغينة تجاه أحد، ولا يحقد على أحد، ولكنه يتطلع للمستقبل ولمشاريع المستقبل، لأن العقل الثأري والحاقد لا ينتج إلا الدمار والخراب، وها هي النتائج ماثلة أمام عيون الجميع، أما العقل البنّاء والمتنور والحضاري فإنه يتطلع لإنقاذ ما يمكن إنقاذه «قبل خراب البصرة»، وهذا لا يعني أبداً أننا سننسى، بل يفترض أن نأخذ الدروس والعبر لوضع قواعد وأسس جديدة للعلاقات بين الدول العربية، ودول المنطقة تقوم على أسس جديدة لا تلعب العواطف فيها حيزاً كبيراً، إنما المصالح المشتركة الدور الأساس، إن كان لذلك سبيل.
الرئيس الأسد الذي نبه القادة العرب في قمة شرم الشيخ في آذار 2003 إلى خطورة ما يعد للمنطقة منذ احتلال العراق، يحق له اليوم بعد خمسة عشر عاماً أن يقدم لهم رسائله ونصائحه ورؤاه للمستقبل بعد انتصاره الكبير مع شعبه وجيشه وحلفائه، فاستمعوا إليه جيداً من الآن فصاعداً، إنها عودة لدور سورية الجديد في المنطقة والعالم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock