منوعات

حياة ملؤها البهجة والمحبة والإيثار .. سهرات النسوان أيام زمان عالم مميز في دمشق وجلسات سمر لاتنتهي

لعل من أمتع الصور التي عاشها مجتمعنا الدمشقي فيما مضى، ما كان بسهرة الأسرة الدمشقية، وما كان من اختلاف الرجال إلى المقهى مساء كل يوم. كان ذلك، قبل أن ينفرط عقد الأسرة الدمشقية ويلهث أفرادها وراء لقمة العيش. يومها كانت الأسرة بالشام أشبه بالقبيلة، تضم الجد والأب والأولاد والأحفاد، وزوجاتهم، والجميع يعيش بدار واحدة، السعد بها دار، والسعادة ترفرف على الجميع، النعيم يشملهم، والمحبة تظللهم، والاحترام المتبادل يسودهم.. كانوا يأكلون من طبخة واحدة ويشكرون اللـه على ما أعطاهم، فبالشكر تدوم النعم.
وفي جميع الأحوال يمكن أن نميز بين سهرات النسوان وسهرات الرجال، كما لا بد من الإشارة إلى أن سهرات النسوة لم تكن في كثير من الأحوال مقتصرة على النساء، بل قد يحضرها رجال تربطهم بالساهرات وشائج قربى متينة، فلا حرج من حضورهم هذه السهرة أو تلك، وعندها تكون السهرة أبسط من تلك السهرة القاصرة على النساء، وسنحاول بهذا البحث الوقوف عند سهرة النسوة بلا رجال.

ليالي الشتاء
فقد كانت الأسر بليالي الشتاء الطويلة القارسة البرد، يقضين سهرتهن بغرفة من غرف المنزل، يتحلقن حول منقل (موقد) متقد بجمر الدق (التمز)، وقد غرس بجانب من ذلك الجمر ركوة القهوة، أو إبريق الشاي، والساهرات من حول ذلك المنقل، يمددن أيديهن بين الفينة والفينة يستدفئن، على جمر النار بالتناوب، أما في ليالي الصيف، فتكون السهرة في مشرقة المنزل بالطابق العلوي من المنزل.
كنت تلحظ الساهرات جماعات ، منهن من يستمعن إلى الحكاية التي ترويها بها الجدة أو الأم، ومنهن من يلعبن البرسيس، أو يلعبن لعبة الباصرة أو لعبة أبي الفول بورق اللعب (الشدّة) أو قد تعمد إحداهن إلى عملية كشف الحظ بالفنجان، وقد يقضين جانباً من السهرة برواية الأمثال والتباري بالأمثال والأقوال (الأزجال) والأحاجي (الحزازير) والمواويل، ويتندرن بالنكات وذكر أخبار السلف ولا ينسين التحدث عن واحدة منهن بما يُعرف بالمقلاية إشارة إلى العيوب التي يحلو لهن إلصاقها بها، وقد تكون هذه المقلاية بحق إحدى الغائبات عن السهرة، فما إن يذكر اسمها حتى يتبارين بذكر مثالب يلصقنها بها، وبالتالي إغفال محاسنها شكلاً وسلوكاً، فتقلب بالمقلاة ذات اليمين وذات الشمال، فلا تترك حتى تتشلفط (تحترق) وخلال ذلك يحتسين الشاي والقهوة والزهورات من مغلي ورق الورد والبابونج والختمية والمليسة. فضلاً عن ثمار الفواكه المجففة من الزبيب والتين والنقوع، وأنواع المكسّرات.. وقد يتناولن وجبة يُعددنها لهذه السهرة كالحراء إصبعه أو الهيلطية والبالوظة من الحليب، ومنهن من تنهي هذه الوجبة بلعق آنية طعامها أو تلويث (ولفحطة) الجالسة بجوارها، في جو من المرح والهرج والمحبة بلا ناقد أو منقود.. أما إذا كان الوقت صيفاً، فما أكثر فواكه الصيف وخاصّة البطيخ (الجبس) الأخضر والأصفر (الشمام) والعنب والتين، كان يتخلل السهرة فترات من الهرج، كأن ترتدي إحداهن ثياب أحد الرجال، وتدخل على الساهرات، فتحاكي في سلوكها وكلامها كلام الرجال في الذهاب والإياب، وأسلوبهم في التحدث والتعامل مع الآخرين، وقد تركز على محاكاة طباع وسلوك إحدى الشخصيات من الرجال المعروفة عندهن، بأسلوب هزلي لا يخلو من المبالغة.

مساجلات ونقائض
ولعل الأقوال (الأزجال) والمواويل من أهم ما كان يشغل الجانب الأكبر من السهرة، وخاصة ما كان منها بمساجلات الساهرات حول الصفات التي تتعلق بمحاسن السمرة (السمار) والبياض للمرأة أو الفتاة، وكذلك المحاسن الأنثوية، وكشف الحظ، والعتاب، كأن تقول إحداهن في وصف محاسن السمرة أقوالاً (أزجالاً) فترد عليها ساهرة أخرى تؤكد محاسن جمال البياض للفتاة ومشاعرها نحوها، ثم يتقارب الطرفان وصولاً إلى أن الله خلق الإنسان في أحسن تقويم.
ونذكر على سبيل المثال بعضاً مما قيل بوصف السمرة والبياض:
يا أسمر السمر يا ما عيروني فيك..
أنت القمر بالسما وأنا النجوم بحويك..
أنت الورد عالشجر، وأنا الندى بسقيقك..
أنت حشيشة القلب، وأنا ما بفرّط فيك
وترد عليها ساهرة أخرى تفضّل محاسن البياض
ياما أحلى البيض إذا خطروا عالمكشوف
يخلّو الشبّ الذي له نظر يشوف
البيض سكر مكرر بالحرير ملفوف
وينتهي المطاف بينهما بالتوافق والإقرار بجمال الطرفين.
وفي حال وجود إشكال بين ساهرتين، فإنهن يسعين إلى تجاوز ذلك الإشكال، فيجري عتاب بين الساهرتين، فالعتاب كما يقولون يغسل القلوب من غصّاتها، ويصفي النيات، فتقول الساهرة الأولى:
حلاوة اللفظ أحلى من شحادة الكفّ
ووجه البشوش يسوى من الجواهر ألف
خود الأصيل ولو كان بالعبا ملتف
لا تاخد النذل ولو كان عنده من الجواهر ألف
ترد عليها ساهرة أخرى مبررة موقفها من ذلك الإشكال:
لو كنت يا زين مثلي تفهم المعنى..
لو كنت تكتم الأسرار كنا ناخدك معنا..
وحياة من خلق نجوم الليل تتمعنى
الدهر دولاب يوم معهم ويوم معنا
وبالطبع تدافع كل منهما عن رأيها مبدية تسامحها ليكون الوفاق بين الطرفين بأقوال نذكر منها:
رايح أودع عندكن روحي

الألغاز والأحاجي
خايف روح تنولوا مهجتي وروحي
وحياة من سطّر الآيات باللوح
ما بحلّ عن عشرتكن حتى طلوع روحي
فإذا جاء دور الأحجية (الحزيرة) يبدأن بدهليز الحزازير (المدخل) الذي يقول:
حفر ونزل وقعد يغزل، يا حزركن شو (ماذا) قال:
وتطرح الأحجية، وتحاول واحدة من الساهرات معرفة المراد بالأحجية فإذا عجزت تقول طارحة الأحجية المراد بالأحجية.
ومن الأحاجي ما كان للأشياء المنظورة أو المأكولة، وفي جميع الأحوال، لا بد أن تكون الأحجية في إطار كلمات منمقة وجمل قصيرة، متوازنة مسجوعة، تصرف الانتباه عن الموضوع المطروح.
ومن تلك الأحاجي ما كان بنهر بردى التي تقول:
يا بياض تقطف من سبع مناخل
لبس الأبيض بالصيف داخل
يا خربان الشام إن صار لي شي
تخرب الشام ولا يصير لي شي

السهرة والأدب الشعبي
أما الحكاية بهذه السهرة، فكانت أبدع ما يقال بالسهرة من الأدب الشعبي، وهي بجميع الأحوال، عنوان لما كانت عليه المرأة الأميّة بتلك الأيام من حصافة، وتمكّن بقول ما ترويه، بأقوال مرصوفة، ومنتقاة بعناية، ومركّبة بحذق تلفت نظر المستمع وانتباهه، وغالباً هذه الحكاية مدخل يعرف باسم الدهليز، وقد يكون هذا مختصراً، كدهليز قمت الدنيا دغشة، أو يكون هذا الدهليز كبيراً أو طويلاً أطول من الحكاية كدهليز كت كتّان، الذي يُعد أروع ما كان على لسان المرأة في مطالع أوساط القرن العشرين من أدب شعبي قل أن يضاهى، بمقولات الأدب الفصيح، بل إن ذلك الدهليز مفخرة لأدب المرأة الشعبي بذلك الحين، ولا يخلو دهليز الحكاية من ذكر النبي (ص) والدعوة للصلاة والسلام عليه وذلك بقول: منحكي لننام يما نصلي على النبي العدنان!!
ولم تكن الحكاية التي تقدم بسهرة النسوان موجهة بحال من الأحوال إلى الصغار، لكونها خاصة بعالم الكبار، فهي موجهة إليهم، فقد تكون عن المرأة، أنثى أو ضرة أو سلفة أو حماية أو زوجة وقد تكون متعلقة بالرجل، أو تكون مستمدة من الحياة، ولم يكن مسموحاً للصغار أن يسمعوها، كان يطلب إليهم النوم عند وقت الحكاية، وكان من الأطفال من يتخابث ويختبئ بين الفرش التي باليوك (المكان المخصص للفرش بالغرفة) فيسترقون السمع للحكاية.. وكثيراً ما كانت تلك الفُرش واللحف تتهاوى من اليوك على الساهرات لكثرة حركة الأطفال المتوارين بينها.
كانت الساهرات يستمعن إلى الحكاية للإفادة من مضمونها أو مغزاها في حياتهن، فالجميع يصغين، كما لو حط على رأس كل منهن الطير! ليتابعن أحداث الحكاية، وحذق أبطالها بخفتهن البارعة حيناً والمدهشة أحياناً بقهر قوى الشر، وتحقيق مبتغاهم بأساليب يقدم بها المستحيل، وتتمزق الحدود، ويتلاشى الزمن ويذوب المكان، ويصبح الكون الذي يبلغ مدارك الساهرات أداة طيعة بين شفتي من تقدم الحكاية.
إذا تأملت وجوه الساهرات، ترى البسمة تشرق على وجه وتغفو على وجه آخر.. ووجه بادي الأسارير تارة، ومتجهم التقاطيع تارة أخرى، والعينان تقرّان في وجه إعجاباً بالحدث الذي ترويه الحكاية تارة، أو تبرمان بمحجريهما، وقد تتسمران تارة أخرى.. ورواية الحكاية لا تزال تدير عواطف الساهرات بأصابعها ونبرة شفاهها وانفراج أساريرها وتقطب وجهها مع أحداث الحكاية كما لو أنها مسرحاً من مسارح هذه الأيام.
ومن أطرف ما كان بسهرات النسوان أسلوبهن بالتغزل بالعيون السود المحببة إلى النفوس لدرجة أن من النسوة من كن يتخذن من العيون السود مطلعاً غزلياً تنطلق منه إلى مشاعر عاطفية ومواقف وجدانية، وقد يؤدين الأقوال والأزجال في كشف حظوظهن من بعضهن، أو من أزواجهن.
وبعد.. وفي ضوء ما أوردناه بهذا البحث عن سهرات النساء بدمشق أيام زمان، فإن من الممكن القول: إن ما كانت تتداوله النسوة بهذه السهرات، يمكن أن يُعتبر صورة معيشة، لجوانب من أدبنا الشعبي.. ما حدا بالجهات المسؤولة القيام بتوثيقها (تسجيلها) لإفساح المجال لدراستها وصولاً إلى الأطر التي كانت تحكم العلاقة القائمة على التحابب والإيثار بين السواد الأعظم من الناس.

منير كيال

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock