مقالات وآراء

حين يعود المشرط من المهجر: جراحة كتف تعيد لسوريا ذراعها الطبية

أنا لا أكتب عن عملية جراحية فحسب، بل عن لحظة وطنية جرت في صمت داخل غرفة عمليات بمشفى دمشق الوطني، ودوّى صداها في كل من آمن أن سوريا تستحق طباً يعيد للإنسان كرامته قبل أن يعيد لأعضائه وظيفتها.

في الساعة العاشرة صباحاً من يوم الخميس 7 آب 2025، كان هناك مشرطٌ عائد من المهجر، بيد الدكتور طلال التلي، يخطّ أولى خطوات الطب العائد إلى سوريا الجديدة… لا شعارات، لا تصريحات، فقط عمل نظيف ومهارة عالية وإنسان ينتظر فرصة للشفاء.

جراحة ليست كأي جراحة

العملية: تبديل مفصل كتف أيمن لمريض كفيف، يعاني من ألم مزمن وعجز حركي أفقده حتى القدرة على أداء أبسط المهام اليومية.

الطبيب المنفذ: الدكتور طلال التلي، أحد الأطباء السوريين الذين اختاروا العودة من المهجر، مسلحاً بخبرة ألمانية وروح وطنية.

الموقع: مشفى دمشق الوطني – الذي بات مؤخراً يشهد نقلة نوعية بدعم من منظمات دولية سورية، وعلى رأسها منظمة “سيغما” (SGMA).

يقول الدكتور طلال بعد العملية: “هذه العملية، وإن بدت تقنية وبسيطة في الظاهر، هي نادرة في سوريا، لأن النظام السابق كان قد جعل الجراحات النوعية حكراً على من يملكون المال أو الواسطة. اليوم، نحن نعيدها إلى مكانها الطبيعي: المشفى الوطني”.

دعم من سيغما… وتأثير مباشر

لم تكن هذه الجراحة ممكنة لولا سلسلة من التدخلات التكاملية قدمتها منظمة “سيغما”، التي أسسها أطباء سوريون في ألمانيا بعد تحرير البلاد.

الدعم شمل:

تجهيزات وأدوات جراحية نوعية.

ورش تدريب للأطباء المحليين.

استقدام خبرات سورية مغتربة ونقل المعرفة إلى الداخل.

“سيغما” لم تعد فقط اسماً في تقارير الدعم، بل شريك فعلي في إعادة تشغيل غرف العمليات في سوريا. دعمها وصل إلى 11 محافظة، بينها دمشق، وحلب، وإدلب، ودير الزور، وغيرها.

تجربة تعليمية حيّة للكوادر الشابة

حضر العملية عدد من طلاب كلية الطب، بدعوة من الدكتور جهاد الداغستاني – رئيس شعبة العظمية بالمشفى، الذي رأى في حضور الطلبة لحظة تعليمية ثمينة.

قال الدكتور جهاد: “هذه الجراحات يجب ألا تُجرى في الخفاء. الطلاب يجب أن يروا، أن يسألوا، أن يراقبوا. التعليم السريري هو الطريق الوحيد لبناء كادر طبي سوري قوي”.

أما الدكتور حكم، أحد الأطباء الشباب الذين شاركوا في تنفيذ الجراحة، فقد علّق قائلاً: “لم تكن مجرد عملية… كانت ورشة تعلم وتحوّل مهني. شعرت أني شاركت في إنجاز وطني حقيقي”.

المريض: حين تتكلم الجراحة نيابةً عن الطب

المريض، كفيف، فقد بصره منذ سنوات طويلة، وتعايش مع ألمه كأنه قدر لا علاج له. لكن بعد نجاح الجراحة، رفع ذراعه لأول مرة دون أن يتأوه، ثم قال بهدوء: “حسّيت حالي خفيف، متل شي تقيل انشال”.

كانت هذه الجملة كافية لتُفهم الجميع أن ما جرى في غرفة العمليات لم يكن عملاً جراحياً فقط. بل كان استعادة لحق الإنسان السوري بالعلاج النوعي.

الطب العائد… لا يحمل شعارات بل يحمل مشرطاً

في زمنٍ مضى، كانت غرف العمليات مغلقة على حالاتٍ منتقاة، وكانت الجراحات النوعية تُجرى في الخفاء، أو خارج البلاد.

لكن ما جرى في مشفى دمشق الوطني، يوم 7 آب، كان مختلفاً:

طبيب عاد من المنفى الطبي، مريض كفيف حصل على رعاية كان يُحرم منها سابقاً، طلاب شاهدوا ما كان يُمنع عنهم، ومشفى بات مركزاً للتعلّم، لا مجرّد بناء بارد.

ختاماً: مشرطٌ عائد، وكتف وطن يُعدّل من جديد.

هذه ليست قصة نجاح فردية، بل مشهد من سوريا ما بعد التحرير. سوريا التي لا ترفع شعار “التطبيب حق”، بل تمارسه. سوريا التي تعيد للمهجرين دورهم الطبيعي: أن يعودوا ليبنوا، لا فقط ليزوروا.

من برلين إلى دمشق… ومن يد الطبيب طلال التلي إلى ذراع المريض الكفيف…

المشرط عاد. والكتف استقام. والوطن بدأ يمدّ يده من جديد.

بقلم: الصحفي حسن البشش

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock