مقالات وآراء

درب السَّد

من دفتر الوطن

حسن م. يوسف

من يراقب سلوكه وسلوك من حوله بدقة، يمكنه أن يستنتج ببساطة أن العلاقات القهرية القائمة بين الدول الكبرى والدول الصغرى، موجودة، مع تعديلات طفيفة، في العلاقات بين الأطفال والبالغين!.
فالطفل عندما يكسر كأساً أو صحناً، دون قصد منه، قد يتعرض لتأنيب شديد من أبيه وأمه، وقد يوصف بالرعونة وانعدام الوعي …الخ. لكن عندما يحطم الأب سيارته في حادث مرور، تجده يتحدث عما جرى بشيء من الفخر كما لو أنه قد أنجز لتوه مأثرة كبرى! والغريب أن بقية الكبار يأتون إليه ويهنئونه بالسلامة، رغم أن ثمن السيارة يعادل ثمن ملايين الصحون والكؤوس!
ولهذا يبدو عالم الكبار بالنسبة للأطفال مخيفاً وخالياً من المنطق والإنصاف، كما هو الحال الآن في العلاقات بين الدول الكبرى والدول الأخرى.
فالدول الكبرى الآن تملك من الأسلحة الفتاكة القادرة على تدمير الكرة الأرضية مئات آلاف المرات، لكنها لا تبرر هذا لنفسها وحسب، بل تتهم الدول النامية التي تحاول تطوير أسلحة لحماية أمنها الوطني، بأنها خطر على السلام العالمي! وهي تعتبر مجرد الشروع بمحاولة اقتناء السلاح مبرراً كافياً لتدمير الدولة المعنية واستباحة ثرواتها واستعباد شعبها.
والأعجب من ذلك أن هذا الحال اللاأخلاقي يجد بين المثقفين من يدعو إليه ويبرره، فالفيلسوف الألماني ليو شتراوس، الذي هاجر إلى الولايات المتحدة في نهاية ثلاثينات القرن الماضي يدعو الإدارة الأميركية بشكل صريح إلى رفض النسبية الأخلاقية، والانتقال إلى الغطرسة الدوغمائية والإمبريالية المتحررة من كل قيد : ” لقد آن الأوان للتخلي عن الفكر الرخو والتمسك بالفكر الصلب، لقد صدرت لنا فرنسا، موجة إثر موجة، الخلل والميوعة الفكرية والأخلاقية، ولقد آن الأوان لدفن هذه النفايات في مقابر جماعية “.
ولمناسبة الحديث عن “الفكر الصلب” الذي يحكم أميركا الآن اسمحوا لي أن أروي لكم هذه الحكاية الواقعية التي جرت في الولايات المتحدة الأميركية.
اشترى رجل كاوبوي من الجنوب الأميركي شاحنة قوية جديدة بدلاً من شاحنته القديمة التي كان يمضي معظم الوقت في إصلاح محركها وتجليس واقيات دواليبها، وقد احتاج الرجل بعض الوقت لكي يوفر ثمن الشاحنة الجديدة، لذا أمضى بضعة أيام وهو يتنقل فيها من مكان إلى آخر ليتباهى بها، وبعد أن قام بجولة شملت معظم المدن والقرى المجاورة عاد إلى البيت وهو ممتلئ بالإعجاب بشاحنته الجديدة!
أثناء وجوده في البيت كان الرجل يطل من شرفة منزله بين وقت وآخر كي يتأمل شاحنته الجديدة، وعندما يراها تلمع في ضوء الشمس كما لو أنها تبتسم له، كان يرد لها الابتسامة وينكفئ إلى الداخل وقلبه ممتلئ بالغبطة!
أثناء قيلولة ما بعد الغداء، أفاق الرجل على صوت ضربات مطرقة يأتي من باحة المنزل، فأطل مسرعاً ليرى حقيقة ما يجري، ذُهل الرجل عندما رأى ابنه الصغير الوحيد، البالغ من العمر ستة أعوام، وهو يهوي بالمطرقة، التي اعتاد هو أن يستخدمها في تجليس شاحنته القديمة، على رفراف الشاحنة الجديدة اللامع ليحدث فيه خدوشاً بشعة!
أصيب الرجل بحالة من الغضب الهستيري، فهجم على ابنه الصغير وأطبق بيده اليسرى على كلتا يديه، ثم أمسك المطرقة بيده اليمنى وأهوى بها على أصابع الولد في عدة ضربات قوية متتالية.
عندما استعاد الأب رشده حمل ابنه ومضى به إلى المستشفى، بذل الطبيب أقصى جهده لإنقاذ أصابع الطفل، لكن العظام كانت مهروسة تماماً، ما اضطر الطبيب في النهاية لأن يستأصل أصابع اليدين.
بعد حل الضماد نظر الطفل إلى يديه المشوهتين الخاليتين من الأصابع فقال لوالده وهو ينشج ببراءة: “بابا أنا آسف لأنني كنت أصلح شاحنتك. لكن متى ستنمو أصابعي من جديد؟” فما كان من الأب إلا أن ذهب الى البيت وشنق نفسه!
لقد حطمت الرأسمالية المتوحشة كل فرص النوع البشري في النمو الطبيعي على هذا الكوكب وهي لم تهرس أصابع البشرية وحسب بل هرست أحلامها أيضاً، غير أنها لن تشنق نفسها كما فعل ذلك الأب الأرعن، فالأمل الوحيد في وضع حد لكوارثها هو أن “يساعدها” ذوو الإرادة الخيّرة من بني البشر على شنق نفسها، وإلا فإنها ستدخل البشرية برمتها في درب السد الذي ما منه رد.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock