منوعات

رياض نجيب الريس (1937- 2020).. رحلة إبحار في الصحافة والأدب والسياسة لم تعرف السكينة

بعد مرض ومضاعفاته رحل أحد الرجال القلائل في عالم الأدب والصحافة والنشر، رحل واهب الورق والحرف رياض نجيب الريس مخلفاً وراءه إرثاً متنوعاً أدبياً وصحفياً وطباعياً تعجز عنه مؤسسات متكاملة ، كان يقوم بكل الأعباء وحده متنقلاً بين مكان وآخر، يرسم بنفسه البدايات والسيرورة والخواتيم بعيداً عن أي ادعاء أو تباه، وحسبنا أن نقف عندما كتبه بنفسه عن رحلته في كتاب ذكريات أطلق عليه اسماً متجذراً في ذاكرته، معبراً عن حقيقته (آخر الخوارج) ليكون المعبّر عن رأيه وحقيقته دون أن يكون لأي اجتهاد آخر سوى القراءة الخاصة.

 

سيرة مهنية صحافية

حين سئل نزار قباني ذات يوم: لماذا تكتب قصتك مع الشعر وأنت ما تزال معطاء؟ أجاب: أريد أن أكتب حياتي بنفسي وألا أترك لمباضع النقاد أن تشرّح جسدي بعد الرحيل كما يحلو لها..! ويبدو أن رياض الريس كان يعي ذلك جيداً لذلك كتب (أشياء من سيرة صحافية)، ولأنه الشاهد على بدء تنحي الورق من حياتنا، كان يتمنى أن يقرأ ولداه هذه السيرة، وقام بنفسه بتحديد غايات سيرته:

(ليس في هذا الكتاب أي شيء شخصي خارج سياق حياتي في الصحافة، إذ ليس فيه فضائح أدبية ولا مغامرات نسائية، ولا بطولات وهمية، ولا مؤامرات سياسية، ولا تصفية حسابات شخصية، كل ما فيه مرتبط ارتباطاً عضوياً تاريخياً بعلاقتي بمهنة الصحافة، كما عرفتها ومارستها وعانيت منها وعانت مني).

إن رياض نجيب الريس عاش حياته مهنياً من الطراز الأول، يبحث عن الكتاب الفريد، وعن الفكرة الجديدة، وعما يثير الزوابع الفكرية، وعما يحرك المياه الراكدة، وسنجد أن هذا المنهج قناعة لديه، وليس منهجاً تجارياً، فكتبه الخاصة التي تحمل اسمه لا تبتعد عن منهج العصف الفكري والسياسي، وذلك قبل أن ينشر للآخرين، ما يدل على المنهج المتكامل محدد المعالم عند رياض الريس بضرورة تقديم المخالف للسائد، الجديد الذي يخدم الإنسان العربي في رحلته المعرفية، وهذا ما أعطى رياض الريس خصوصيته ونجاحاً في مهنته الصحافية وفي كتاباته، وفي مهمته كناشر من الطبقة الأولى كما في أرقى دور النشر العالمية.

 

مع رياض نجيب الريس في حياته

ولد رياض نجيب الريس في دمشق يوم الثلاثاء 28 تشرين الأول 1937 في زقاق الصخر، لوالده نجيب الريس القادم من حماة إلى دمشق عام 1918، وقد اختار الإقامة فيها والعمل في الصحافة، فراسل الأحرار والنهار، ودرس الحقوق على أكبر الأساتذة في الجامعة السورية، وتخلى عن القنباز والقبقاب ليرتدي الزي الإفرنجي، وعمل في جريدة القبس لمحمد كردعلي، إلى أن صار يصدرها وحده عام 1928.

سجن والده مع عبد الرحمن الشهبندر وحسن الحكيم في سجن أرواد عام 1922 أول مرة، ثم سجن مرة ثانية فيه مع فارس الخوري وجميل مردم وفوزي الغزي بعد إصداره كتابه (نضال) وفي سجن نجيب الأول نظم نشيده الوطني الأكثر شهرة، والذي لحنه الموسيقار محمد عبد الوهاب:

يا ظلام السجن خيم         إننا نهوى الظلاما

ليس بعد الليل إلا            فجر مجد يتسامى

لست والله نسيا                     ما تقاسيه بلادي

فاشهدي يا نجم أني         ذو وفاء ووداد

انتخب والده نائباً عن دمشق عام 1943 حتى 1946 ولم يرشح نفسه بعدها وتفرغ للصحافة.

توفي والده نجيب الريس عام 1952 وهو في الرابعة عشرة من عمره طالباً داخلياً في برمانا.

تهيأ لرياض دراسة مهمة وراقية على يدي والده، وتابعها بعد وفاته بإدارة والدته، وتعاون أصدقائه من أمثال سعيد فريحة كما يذكر رياض نفسه بعرفان قلّ مثيله.

بعد تأميم جريدة القبس انتقلت الأسرة إلى بيروت عام 1960.

درس عام 1956 في إنكلترا بعد إنهاء مرحلة برمانا الغنية التي كونته.

بدأ حياته الصحافية في مجلات ودوريات مدرسة برمانا، وأبدع في فنون الصحافة: الريبورتاجات والأحاديث واليوميات والافتتاحيات.

مارس مهنة الصحافة أثناء دراسته الجامعية وأصدر وأشرف على نشرات طلابية.

عام 1961 بدأ الصحافة مع سعيد فريحة في دار الصياد، وأشرف على الصفحة الأدبية في الأنوار، وفيها بدأت صداقته مع نبيل خوري.

عام 1962 أصدر مع هشام أبو ظهر أول جريدة أسبوعية عربية (المحرر) ويذكر رياض بصدق تأثره بالصحافة البريطانية، ومنهج أخبار اليوم المصرية وفي هذه الفترة عمل معه، ليلى عسيران وغسان كنفاني ثم ما لبث أن ترك رئاسة تحرير المحرر لغسان كنفاني، ويقول رياض: كان غسان مؤهلاً أكثر مني.

عاد عام 1964 من لندن ليعمل في جريدة الجريدة مع جورج نقاش.

عام 1965 انضم إلى الحياة مع كامل مروّة الذي يختلف معه في كل شيء، ويقول: (علمني كامل مروة معنى حرية الرأي، وأنه من الممكن في الصحيفة الواحدة مهما كان اتجاهها السياسي أن تجد مجالاً لحرية التعبير بين محرريها).

عام 1966 بدأ مع النهار والعمل الميداني وبدأت علاقته مع الشأن الخليجي، وقام بتغطية الأحداث ميدانياً عام 1968 من براغ، عام 1967 من انقلاب اليونان، أحداث قبرص، زيارة نيكسو لبوخارست عام 1969، الانقلاب على عبد الرحمن عارف 1968 هذه الرحلة الصحفية الصعبة والمميزة لرياض نجيب الريس تظهر بلا ريب قدراته وأفكاره وتفوقه الذي مكنه من أن يكون قطباً صحفياً في وسط يملك حساسية عالية تجاه الآخرين, ذلك حتى قبل الحرب الأهلية اللبنانية، وما من عبث، ولا على سبيل النكتة يذكر رياض تعليق غسان تويني على صداقة فرانسوا عقل مع رياض «ما الذي يجمع يا ترى بين هذا المسيحي الماروني الداموري اللبناني اليسوعي الفرانكفوني، وهذا المسلم السني الدمشقي السوري العربي الأنكلو سكسوني)؟

وهذه الجملة توجز معاناة رياض لإثبات ذاته في وسط يتمتع بكثير من الخصوصية. لكن تفوق رياض الريس الصحفي والأدبي والمهني جعله في المكانة التي يستحق، يحتفظ لكل واحد بمكانته، وينصف الآخرين، وإن كان على خلاف مع بعضهم.. لذلك حينما عاد للكتابة في النهار، عاد كما هو حراً، وحين لم يتم تنفيذ الاتفاق، ومنعت مقالة له من النشر قال:

(كان الوقت مناسباً للانصراف إلى الاستعداد لإصدار النقاد).

 

المنار والصحافة المهاجرة

عام 1977 أصدر رياض الريس صحيفة المنار في لندن مع مجموعة من الصحفيين، وبمبلغ مالي كبير أخذه قرضاً من بنك البحر المتوسط، وهي أول صحيفة عربية أسبوعية تصدر في أوروبا، ونتيجة مواقف الأنظمة العربية فضّل الريس إقفال الجريدة (لقد فضلنا إقفالها بشرف).

ويذكر رياض الريس أن الديون والأعباء والقروض ترتبت عليه بعد الإقفال، فكانت دعوة صديقه نبيل خوري من باريس للكتابة في مجلة (المستقبل) لزاوية ثابتة بعنوان «الفترة الحرجة» واستمر في المستقبل من 1979 حتى 1986 ويذكر أن مساهماته قلت حيث بدأ هامش الحرية يضيق.

مشروع رياض الريس الخاص

عام 1986 أسس في لندن شركة رياض الريس للكتب والنشر وفق ضوابط وضعها، وكانت أول شركة تصدر الكتب العربية في لندن، وفي عام 1989 بدأت عودة الشركة إلى بيروت مع بقاء المركز في لندن، وفي عام 1989 بدأ العمل على إصدار مجلة «الناقد» وفي نيسان افتتحت مكتبة (الكشكول) المكتبة التي تحتوي 20.000 من الكتب العربية الصادرة في الوطن العربي..

وفي لبنان بدأت معاناة رياض الريس، إذ صودرت كتب الدار مثل: الروض العاطر في نزهة الخاطر للنغزاوي بأمر من دار الفتوى، وبكتاب من الشيخ دريان الذي كان مديراً لمكتب المفتي آنذاك.

كما يذكر أنه وبطلب من الفتوى اللبنانية صودرت كتب الصادق النيهوم المهمة:

صوت الناس- الإسلام في الأسر- إسلام ضد الإسلام، ولعله من الإنصاف أن نذكر عبارة رياض الريس (تم إعادة طباعة كتب الصادق النيهوم الثلاثة المصادرة في لبنان، في دمشق وبإذن من وزارة الإعلام السورية، وهي تباع اليوم في سورية وفي جميع البلدان العربية).

وكان إصدار مجلة (الناقد) ضمن مشروعات الشركة ويذكر في بيان المجلة: (نحن مجلة وطنية، قومية في عصر لم يعد فيه قومية.. المجلة الوحيدة في العالم العربي التي لا تراعي الرقابات العربية. ننشر ما نراه ضمن خطنا الثقافي والليبرالي وتعددية فكرنا ما نراه مناسباً، وما نراه خلّاقاً).

واستمر مشروع رياض نجيب الريس المهم على المستوى العربي في كل مجال، وحقق إنجازات تعجز عنها مؤسسات، وقد أحسن في كتابة سيرته لنعرف كل مشروع وكيف تمّ تمويله، ولو لم يفعل ذلك لتطوع كثيرون في اختراع جهات تمويلية كثيرة. وحسبنا أن نقف عند فواصل دقيقة لنعرف أهمية سرده لرحلته، ففي الوطن العربي منعت أعمال شركته، وفي بيروت حاصر كتبه الأمن العام ودار الفتوى، بينما صدرت هذه الكتب في سورية وبشكل نظامي ومسموح، فأي سوري كان في انتمائه وحياته وجهوده؟!

أسهمت دار نشره الشهيرة في تقديم الكتاب العربي، بفكر حر منطلق، دون أي حساب للرقابة، وبشكل لائق كمؤسسة لندنية المنشأ تأثرت بهوية الكتب والدار.

تتطلب عرض الشرائح هذه للجافا سكريبت.

ألقى عصا الترحال

لم تكن الصحافة مهنة مكتبية حرة عند رياض الريس، بل كان صحفياً ميدانياً، وكان رحالة، وتمركز في مواقع الحدث والخطر، وراسل وكان صاحب سبق صحفي في مفاصل من التاريخ الحديث، هذا بالإضافة إلى تمترسه الأدبي والسياسي، ودفاعه عن مستقبل الشباب العربي، سبح عكس التيار في مشروعات خاسرة، ولنقرأ بألم ما كتبه عن مشروع مجلة «الناقد» «تمنى علينا أحد الشعراء الغيورين لو أننا نصدر مجلة كلمات متقاطعة تساعده في النوم بدلاً من مجلة ثقافية تساعده على الاستيقاظ والفهم.

وبعد ستة عشر عاماً من مغامرات النشر الثقافي أدركنا متأخرين وبحكم وقائع التجربة المرة، كم أن ذلك الشاعر كان مصيباً في نصيحته، فالناس تريد أن تنام لا أن تستيقظ، وتريد أن تتفرج على المجلات السينمائية والنسائية والكلمات المتقاطعة والمتعارضة والسرية سعياً للوصول إلى مسابقة من سيربح المليون نقداً أو ذهباً، لا أن تقرأ مجلات ثقافية سياسية أدبية»!!

ما بين عام 1988 حين كتب هذا الكلام وعام 2020 عام رحيله مسافة زمنية، ماذا لو تهيأ لرياض الريس أن يصحو من إغفاءته ماذا سيقول عن الحاضر الثقافي السياسي الأدبي؟!

خسرت الصحافة العربية والسورية، وخسر الكتاب العربي أحد أركانه الهامة برحيل رياض نجيب الريس، ولكنه رحل بعد أن زرع الأرض حباً وكلمات.

 

من أعمال رياض نجيب الريس:

1- موت الآخرين    شعر

2- الفترة الحرجة     دراسات

3- صراع الواحات والنفط- هموم الخليج

4- البحث عن توفيق صايغ        شعر

5- ظفار – دراسة

6- الخليج العربي ورياح التغيير- دراسات

7- وثائق الخليج العربي- دراسات

8- جواسيس بين العرب- دراسة

9- شخصيات عربية من التاريخ- دراسات

10- المسيحيون والعروبة- دراسات

11- قبل أن تبهت الألوان- دراسة صحفية

12- رياح السموم- دراسات

13- أكتب إليكم بغضب- دراسات

14- رياح الجنوب- دراسة عن اليمن

15- رياح الشرق- دراسة عن الخليج

16- مصاحف وسيوف- دراسة

17- قضايا خاسرة- دراسة

18- سيناريو لمستقبل متغيرات عربية- دراسات

19- آخر الخوارج – سيرة صحفية.

تتطلب عرض الشرائح هذه للجافا سكريبت.

الوطن – إسماعيل مروة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock