زيارة كييف.. خطوة سوريّة تعيد هندسة الانفتاح السياسي

تُمثّل الزيارة الأولى لوفد رسمي سوري إلى أوكرانيا منعطفاً مهماً في مسار الدبلوماسية السورية الجديدة، ليس فقط من حيث التوقيت وحساسية الملف الأوكراني دولياً، بل من حيث الرسائل السياسية التي يحملها هذا التحرك تجاه القوى الدولية والإقليمية.
فالانتقال من مرحلة الجمود الطويل في العلاقات الدولية، إلى خطوة انفتاح سياسي مدروسة تجاه دولة تعيش صراعاً دولياً مُعقّداً، يعكس ثقة متنامية لدى دمشق في قدرتها على إعادة تموضعها وتعزيز حضورها الخارجي عبر مقاربة أكثر توازناً ومرونة، وقد عكست القراءة الرقمية للتفاعل العام على منصات التواصل حجم الاهتمام بالزيارة، إذ شكّلت حدثاً “مفاجئاً” وواسع الصدى، وفق ما أظهرته تلك المنصّات.
وتكمن أهمية الزيارة أولاً في أنها تأتي ضمن سياق تعافٍ تدريجي للدور السوري الخارجي، فبعد سنوات من العزلة التي فرضها النظام البائد ودخوله في صراعات واستقطابات إقليمية، اختارت دمشق أن تعود إلى المسرح الدولي من بوابة الانفتاح على ملفات ذات طابع إنساني واقتصادي وأمني، وهو ما يظهر من طبيعة الوفد المشارك الذي ضم وزيري الطوارئ والزراعة، في رسالة مباشرة مفادها أن البعد الإنساني–الغذائي والأمني هو محور الأولويات في الدبلوماسية السوريّة خلال المرحلة المقبلة.
من جهة ثانية، فإن تخطي الحساسيات السياسية المرتبطة بالاصطفافات الدولية في الحرب الأوكرانية، والاقتراب من كييف بخطوة رسمية، يعكس رغبة سوريّة واضحة في توسيع شبكة علاقاتها ضمن مقاربة تقوم على مبدأ “التوازن وعدم الارتهان”، بما يسمح لدمشق بإعادة صياغة حضورها في القضايا الدولية بعيداً عن منطق المحاور، وهو أحد الملامح الأساسية للدبلوماسية السورية الجديدة. فالزيارة بحد ذاتها تكرّس استقلال القرار السياسي، وتثبت قدرة دمشق على التحرك وفق ما تراه مناسباً لمصالحها الوطنية بغضّ النظر عن الضغوط أو التوقعات.
أما على المستوى العملي، فإن الملفات التي يتوقّع مناقشتها الوفد السوري، من الأمن الغذائي والتبادل الزراعي إلى إدارة الأزمات والطوارئ، وتؤكد أن الزيارة تستند إلى أهداف تنفيذية واضحة وليست مجرد رسالة سياسية.
وتُعدّ أوكرانيا إحدى الدول الأساسية في إنتاج الحبوب عالمياً، ما يجعل التعاون الزراعي معها فرصة استراتيجية لسوريا في مرحلة تحتاج فيها دمشق إلى تعزيز أمنها الغذائي وتنويع مصادره، كما أن تطوير قنوات تواصل مع دولة تمتلك خبرة واسعة في إدارة الكوارث والأزمات، يمكن أن يُمثّل مكسباً إضافياً للقدرات الوطنية السورية.
ورغم وجود بعض الأصوات الساخرة أو المشككة في أهمية الخطوة، كما أظهر التفاعل الرقمي، إلا أن غالبية الآراء والتفاعلات اتجهت إلى النظر للزيارة بوصفها خطوة إيجابية في سياق الانفتاح السياسي وإعادة بناء العلاقات الدولية لسوريّة، وهذا مؤشر مهم إلى أن الشارع السوري بدأ يتفاعل بإيجابية مع التحركات الدبلوماسية الهادئة التي تركّز على الملفات الاقتصادية والإنسانية.
في المحصلة، تُشكّل زيارة الوفد السوري إلى كييف بداية لمسار دبلوماسي أوسع، يؤكد أن سوريا تدخل مرحلة جديدة من مقاربتها للعلاقات الدولية، قائمة على المرونة والواقعية وتغليب المصالح الوطنية، إنها خطوة صغيرة في الشكل، لكنها كبيرة في دلالاتها واستحقاقاتها، وتفتح المجال لإعادة تأهيل موقع سوريا كفاعل متوازن قادر على إدارة شبكة علاقات متعددة الاتجاهات، بعيداً عن الاصطفاف، وانطلاقاً من منطق الدولة ومصالح شعبها.
الوطن