سياسة

سموم المبالغة

| حسن م. يوسف

خلال الأسبوع الماضي انتشرت في الصحف ومواقع التواصل الاجتماعي العربية مقالات عديدة تثير الفضول حول المهندس الهندي جاينت باليغا، وقد استوقفتني بعض العناوين: «رجل واحد يفهم أنقذ مئات الملايين من الفقر»/«مهندس هندي ينقل بلاده من ظلمة الجهالة والفقر إلى نور العلم والتنمية»/«مهندس عبقري أنقذ مليار شخص في الهند»!

وقد أضحكتني هذه العناوين الطنانة التي توحي بأن أشقاءنا الهنود قبروا الفقر جميعاً بما في ذلك الرجل الذي يجر عربة الركشو في أزقة كالكوتا!

لست أنكر أن هذه المبالغات لم تزعجني رغم سذاجتها لأنها تدل على زوال النظرة إلى الهند باعتبارها «بلد محدودي الدخل والذكاء» وانكماش الصورة النمطية العنصرية التي كانت سائدة عن الهنود، فمن المعروف أن بعض الناس كانوا خلال العقود الأخيرة يستخدمون كلمة (هندي) كشتيمة يوصف بها الشخص المتخلف محدود الذكاء!

ولد المهندس جاينت باليغا في قرية صغيرة بالقرب من بنغالور. كان والده من أوائل المهندسين الكهربائيين في الهند، ولعب دوراً محورياً في تأسيس صناعة أجهزة التلفزيون والإلكترونيات الهندية. درس باليغا هندسة الإلكترونيات والهندسة الكهربائية في الهند ثم ذهب إلى أميركا حيث عمل لمدة 15 عاماً في مركز جنرال إلكتريك للبحث والتطوير ثم التحق بجامعة ولاية كارولينا الشمالية، حيث تمت ترقيته إلى أستاذ جامعي متميز. اشتهر باليغا بعمله على أجهزة أشباه موصلات الطاقة واخترع البوابة المعزولة للترانزستور ثنائي القطب الذي يستخدم في جميع الأجهزة الإلكترونية حول العالم بدءاً من الأجهزة المنزلية، مروراً بالسيارات، ومكيفات الهواء، والخلايا الشمسية، وانتهاء بأجهزة تنظيم ضربات القلب المحمولة. ويقال إن اختراع باليغا أفاد الملايين ووفر على البشر نحو 15 تريليون دولار.

حصل باليغا على 120 براءة اختراع أميركية وفاز بالعديد من الجوائز داخل أميركا وخارجها كما منح من قبل الرئيس الأميركي باراك أوباما عام 2011، الميدالية الوطنية للتكنولوجيا والابتكار، وهي أعلى جائزة تمنح لمهندس في الولايات المتحدة الأميركية.

ما لاشك فيه أن المهندس باليغا رجل عبقري، غير أن النهضة التي تعيشها الهند حالياً لا يرجع الفضل فيها لشخصه وحده، فالهند كانت طوال النصف الثاني من القرن العشرين البلد الأول في العالم بعدد التقنيين، وهي ثاني أكبر دولة في العالم من حيث عدد السكان، ونظراً لانخفاض أجور الأيدي العاملة، وتدني تكاليف المعيشة، وانتشار اللغة الإنكليزية التي تهيمن على قطاع المعلوماتية، فقد استعانت الشركات الأجنبية بالشركات الهندية لأداء خدمات التطوير الخارجية، بحيث أصبحت الهند هي المقر الرئيس لعمليات الدعم الفني لبعض أكبر الشركات.

وقد عزز هذا التوجه وجود بنية اتصالات قوية في الهند، تمكن الشركات الأجنبية من البقاء على اتصال مستمر مع فروعها والعاملين في تطوير برامجها. كما أن شركات التطوير الهندية اكتسبت سمعة ممتازة وحازت ثلاثة أرباع شهادات الجودة في مجال تكنولوجيا المعلومات.

والآن يعمل في قطاع تكنولوجيا المعلومات الهندي نحو خمسة ملايين شخص، وتقدر إيرادات الهند من شركات تكنولوجيا المعلومات المحلية وشركات المعلوماتية المتعددة الجنسيات بـ227 مليار دولار وهذا يعادل 7.4% من الناتج المحلي الإجمالي للهند في السنة المالية الحالية 2022، أي ضعف دخل قناة السويس 37 مرة.

لا شك أن هذه النهضة الكبيرة تقف وراءها سياسة دولة لا مجرد مبادرة فردية من مهندس عبقري. وقد أصاب فيكتور هوغو عندما حذر من المبالغة، لأنها تجعل من الثقة الشديدة بالنفس، غروراً، ومن المديح الزائد، نفاقاً، ومن التفاؤل المفرط، سذاجة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock