عندما تتحول مدينة إلى رمز جامع.. قراءة في خطاب الرئيس الشرع من إدلب

يمثل الخطاب السياسي أحد أهم الأدوات التي يعبر من خلالها عن رؤى القيادة تجاه القضايا الوطنية، كما يشكل انعكاساً للظرف التاريخي والسياسي الذي يلقى فيه، وعليه، يكتسب خطاب الرئيس أحمد الشرع خلال مشاركته في فعاليات حملة “الوفاء لإدلب” أهمية خاصة، ليس فقط لكونه أطلق من مدينة عانت ويلات الحرب والدمار وأصبحت ملاذاً لمئات الآلاف من النازحين، بل لأنه يحمِل أبعاداً رمزية تتجاوز حدود المكان إلى آفاق إعادة بناء المشروع الوطني السوري، ومن هنا فإن اختيار إدلب لتكون منصة إعلان هذه الرسائل يشي بدلالات تتصل بالذاكرة الجماعية، والمصالحة الاجتماعية، والرهان على وحدة الشعب كشرط لازم للنهوض من الأزمة.
إن وصف الرئيس الشرع إدلب بأنها “الأم التي فاء إليها أبناؤها” وأنها تحولت إلى “سوريا مصغرة”، يضعها في موقع يتجاوز حدود الجغرافيا إلى مستوى الرمز الوطني، فهي لم تعد مدينة محلية تعيش تجربة النزوح فقط، بل باتت تجسيداً لتجربة السوريين كافة، بما تحمله من معاناة واحتضان في آن واحد، وهذا التوصيف يرسخ صورتها كذاكرة جامعة، تتسع أبناء الوطن المختلفين والمتباعدين بفعل الحرب.
إعلان “يوم الوفاء لإدلب” يكشف عن بعد تصالحي يهدف إلى إعادة الاعتبار للمدينة ولسكانها، ويمد جسور الثقة بين الدولة والمجتمع، فدعوة السيد الرئيس لـ”هدم آخر خيمة فيها” ليس مجرد إشارة إلى تحسين الأوضاع المعيشية، بل هو دعوة لإنهاء مرحلة الشتات واللجوء، وبداية عهد الاستقرار، ومن هنا، فإن الخطاب يهدف إلى إعادة تشكيل الوعي الجماعي عبر تحويل الألم إلى مناسبة للوحدة والأمل.
تشديد الرئيس الشرع على أن “وحدة الشعب السوري واجب لا مفر منه”، هو تأكيد على أن إعادة إعمار سوريا ليست عملية مادية فحسب، بل مشروع وطني شامل لا يقوم إلا بتجاوز الانقسامات، هنا تتضح معادلة أساسية في الخطاب، وهي أن لا إعمار بلا مصالحة، ولا مصالحة بلا وحدة، وبهذا، يصبح البناء المادي للمنازل والطرقات مرتبطاً بالبناء الرمزي للنسيج الاجتماعي الذي تضرر خلال سنوات الحرب.
لم يخل الخطاب من بعد شخصي وعاطفي، حيث عبر الرئيس الشرع عن عشقه لإدلب رغم محبته لدمشق، وهذا التفضيل العاطفي يضفي على الخطاب طابعاً وجدانياً يلامس مشاعر الناس، ويعزز صورة القيادة القريبة من هموم المواطنين وآلامهم، كما أن اختيار إلقاء الخطاب من إدلب بعد العودة من الأمم المتحدة يرمز إلى أولوية الداخل على الخارج، وإلى أن الشرعية السياسية تستمد قوتها من التفاعل المباشر مع الشعب قبل أي اعتراف دولي.
إن خطاب الرئيس الشرع في إدلب لا يمكن قراءته في إطار احتفالي محدود، بل ينبغي اعتباره إعلاناً عن رؤية سياسية ووطنية تسعى إلى إعادة رسم ملامح سوريا ما بعد الحرب، فقد جعل من إدلب رمزاً للذاكرة والوحدة، وأكد أن الوفاء لها يعني إنهاء المخيمات وفتح أفق العودة والاستقرار، كما ربط بين وحدة الشعب وإعادة الإعمار، ليضع المصالحة الوطنية في قلب المشروع التنموي، ولعل أبرز ما يميز هذا الخطاب هو اعتماده على لغة رمزية وعاطفية تزاوج بين السياسة والوجدان، وتستهدف بناء وعي جديد يقوم على تجاوز الماضي والانطلاق نحو مستقبل يتشارك فيه السوريون جميعاً من دون استثناء، وهكذا، يكتسب الخطاب قيمته من كونه ليس مجرد إعلان موقف، بل تأسيس سردية وطنية جامعة تعيد الثقة بين الشعب والدولة، وتفتح الطريق أمام مشروع سوريا الجديدة.
الوطن