مقالات وآراء

عن العروبة والإسلام وبلاد الشام

مثلت الكلمة التي ألقاها الرئيس الأسد خلال مشاركته في اللقاء الموسع الذي عقدته وزارة الأوقاف عنواناً مهماً حرض الأسد من خلاله موجة من العصف الفكري الذي يتناول مجموعة من أهم القضايا التي تشغل بال المواطن العادي والبسيط بقدر ما تشغل تفكير وبحث الأوساط الأكاديمية والمثقفة على حد سواء.
وضع الرئيس الأسد خلال كلمته مجموعة من الأطروحات الفكرية الواضحة في الانتماء والهوية والفكر والدين والأخلاق والمجتمع، وأجاب بها على جملة من المسائل الإشكالية التي شغلت المجتمع السوري ردحاً من الزمن، وتصاعدت في العقد الأخير بالتزامن مع الحرب الإرهابية على سورية.
كان لافتاً في حديث الرئيس الأسد كلامه الواضح في التصدي لبعض الطروحات التي لا تستند إلى حقائق فكرية أو حضارية أو أركيولوجية بقدر ما تلاقي هوىً في نفس البعض، أو تلتقي مع مخططات دخيلة تهدف إلى التشكيك بعروبة بلاد الشام، وطرح الفتح العربي والإسلامي لبلاد الشام على أنه “غزوات” أو “احتلال” قام بها شعب أو مجموعة بشرية “بدوية” تمتلك من العادات والتقاليد ما لا يمت لبلاد الشام بصلة، وتالياً تمادى البعض في غيه ليصف اللغة العربية بأنها “لغة احتلال”، والغرض من كل هذه الطروحات الضحلة والمضللة ضرب مفاهيم الهوية، وتحقيق القطيعة مع التاريخ والثقافة، ولاحقاً قطيعة مع الدين والأخلاق والقيم، لتصبح هذه الأمة منزوعة الانتماء، وبالتالي يصبح انتماؤها الوحيد هو للمصلحة والمال، و ليس لقضية أو تاريخ أو قيم.
عندما نتحدث عن تاريخ بلاد الشام والعراق وسهل تهامة (الحجاز) وصولاً إلى اليمن وحضرموت فنحن نتحدث عن حوض حضاري واحد تبادل أهله صلات القربى على المستوى الانتروبولوجي، فضلاً عن الاشتراك باللغة واللهجات والتجارة والدين والميثولوجيا، فلا قطيعة ولا انفصال بل تواصل بكل مناحي الحياة، وهو ما أشار اليه القرآن الكريم في ذكره رحلة الشتاء والصيف.
فقبل بعثة النبي محمد عليه الصلاة والسلام، كانت الأوثان المنصوبة في الكعبة هي ذاتها المنتشرة في بلاد الشام، أو كناية عنها، وكان يُطلق على كعبة مكة اسم “الكعبة الشامية” تمييزاً لها عن “الكعبة اليمانية” في تبالة، وكان محمد عليه الصلاة والسلام يستقبل الكعبة وبيت المقدس معاً، فيجعل “الكعبة الشامية” بينه وبين اتجاه القدس، فكان المسجد الأقصى أولى القبلتين.
كان هذا المُتحد الحضاري التاريخي من اليمن وانتهاءً بالعراق يختلف عن علاقة سهل تهامة بنجد اللتين تفصل بينهما سلسلة جبال الحجاز، وقيل إنه “إنما سمي الحجاز حجازاً لأنه يحجز بين تهامة ونجد”، فعرب تهامة بمكتها ويثربها هم أعراب نجد.
وإذا ما أوغلنا أكثر في التاريخ، فسنجد أن سيرة ابراهيم عليه السلام أبي الأنبياء فيها دلالة أكيدة على وحدة هذا الحوض الحضاري بما في ذلك شموله مصر أيضاً، فابراهيم ينتمي بالأصل إلى “أور الكلدانيين” في العراق، وهو في ترحاله حلّ في مدينة “الرها”، ثم انتقل إلى حلب الشهباء، ثم إلى دمشق ثم إلى القدس وصولاً إلى مصر، ثم عودةً إلى بئر السبع والخليل انتهاءً بوادٍ غير ذي زرع في مكة، حيث يعود محمد صلى الله عليه وسلم بنسبه إلى اسماعيل بن ابراهيم عليهما السلام.
ومن هنا فإن الفتح الاسلامي لبلاد الشام كان تعبيراً عن التأثيرات المتبادلة ضمن الحوض الثقافي الواحد، فكما أثر العراق عبر دعوة ابراهيم عليه السلام في سورية وفلسطين والحجاز، أثرت فلسطين عبر المسيح عليه السلام بنشر الرسالة المسيحية في الشام والعراق ومصر والحجاز، وأثر الحجاز بدوره في المتحد الحضاري نفسه عبر الرسالة المحمدية الخاتمة.
أما عن اللغة العربية وسائر اللغات القديمة التي تنتمي إلى أصل واحد هي اللغة السامية وفرعها الشمالي، فقد بين الرئيس الأسد أن العديد من مدن وممالك العرب كالتدمريين والأنباط كانوا يتحدثون ويكتبون بالسريانية، أو يتحدثون العربية ويكتبون بالحرف السرياني، فالأبجدية النبطية واللغة العربية النبطية دليل واضح لا تخطئه عين الباحث، والنقوش العديدة التي وجدت في جنوب الأردن (البتراء) امتداداً إلى حوران شمالاً والنقب جنوباً، وفي عين المريفق (عين عبدات) ، وصولاً إلى مدائن صالح في شبه الجزيرة العربية جميعها تؤكد هذه الحقائق التي ذكرها الرئيس الأسد، وتؤكد أن ذكر العرب في بلاد الشام موغل في القدم بما يجعلهم عنصراً أساساً في تركيبتها الديمغرافية والحضارية.
ومن هنا نستنتج أن الفصل بين بلاد الشام والحجاز تعسفي يحمل تشويها هائلاً للتاريخ، والغرض منه إنشاء تمايز حضاري وهمي يهدف إلى ضرب عروبة بلاد الشام وإضعاف مفهوم العروبة بشكل عام، مع كل ما يعنيه ذلك من ضرب جميع الأبعاد الدينية والأخلاقية والحضارية المحمولة على اللغة والثقافة العربيتين.
مما لا شك فيه أن الجرعة المعرفية في كلام الرئيس الأسد كانت وازنة ودسمة، وشكلت وضعاً للنقاط على الحروف فيما يتعلق بكل ما يثار من لغط حول مفاهيم التاريخ واللغة والهوية والانتماء، والتصويب الذي حملته كلمة الرئيس الاسد للعديد من المفاهيم المغلوطة من شأنه أن يعيد الأمور إلى نصابها في قضايا ثقافية واجتماعية ووطنية ضرورية في ظل الحرب المعلنة على المنطقة بتاريخها وأخلاقها ومثلها وحقها بالدفاع عن تاريخها وانتمائها.

د. أسامة دنورة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock