مقالات وآراء

لسنا دعاة قتلٍ وتدمير.. عندما تكذب الفقاعة أكثر!

«لن نتحمل عواقب القرارات التي يتخذها الآخرون». هكذا عقب رئيس الوزراء اليوناني كيرياكوس ميتسوتاكيس على وصول الطلائع الأولى للمهاجرين باتجاه الحدود التركية اليونانية في ولاية «أدرنة» التركية، بعد أن نفّذ النظام التركي تهديداته بفتح الحدود ما لم يتم إيقاف الجيش العربي السوري عن التقدم في ريفي إدلب وحلب، رأس النظام التركي رجب طيب أردوغان قال صباح أمس بأن الآلاف من المهاجرين عبروا فعلياً باتجاه الحدود بانتظار الدفعة الثانية في رسالة تهديدٍ واضحة للاتحاد الأوروبي قوامها الأساس التجارة باللاجئين. إحدى القنوات الأوروبية نقلت بالأمس في تقريرٍ لها مقاطع لتجمع المهاجرين وانطلاقهم باتجاه الحدود مع وجود شاخصاتٍ تدلهم على الطريق، اللافت أن القناة أجرت مقابلاتٍ مع بعضهم من غير السوريين، كجزائريين ومصريين وفلسطينيين وبعضهم الآخر من أصولٍ آسيوية، هذا التقرير يجعل السؤال المطروح:
هل هي فعلياً حركة مهاجرين؟ أم إن هؤلاء عبارة عن «تشكيلةٍ جهاديةٍ» يستحوذ الذين كانوا يقتلون ويذبحون الأبرياء بذريعة نصرة الشعب السوري على الحصة الأكبر منها، ويريد أردوغان معاقبة أوروبا بهم؟
إحدى ضحايا هذه التجارة الأردوغانية نشرت قبل أمس فيديو مباشراً طالبت فيه كل السوريين الذين يريدون الوصول إلى منطقة «أدرنة» بالعودة مباشرةً لأن الوضع أبشع بكثيرٍ مما يعتقدون، فالهدف الأردوغاني فيما يبدو هو إيصال هؤلاء القاصدين للحلم الأوروبي إلى نقطة الحدود وتركهم يلاقون مصيرهم، بعضهم ذهب عبر النهر ولم يتمكن أحد من معرفة مصيره، بعضهم قامت قوات حرس الحدود اليونانية بتشليحهم كل ما يملكون وإعادتهم. لتبدو معها قضية اللاجئين ملفاً عند الطلب، يستحضرهُ أردوغان كلما تهاوت طموحاتهُ باستعادة حلم سلطنة الإجرام العثمانية، ليجعل الأوروبيين يتحملون عواقب قراراته، فهل تنجح سياستهُ هذه المرة؟
يبدو أن عبارة «لن نتحمل عواقب القرارات التي يتخذها الآخرون» بدت في مضمونها رسالة متعددة الاتجاهات قد وصلت لرأس النظام التركي مفادها بالحدّ الأدنى لن نكون عرضة للابتزاز، وفي حدها الأعلى لن نتدخل. هذه النتيجة التي كانت قبل أسبوع أو أسبوعين مجرد استقراءٍ باتت اليوم حقيقة. لكي نفهم تشابكاتها علينا عدم النظر لما يقولهُ الأوروبيون تحديداً في ما يتعلق بالتدحرج نحو اتساع رقعة المواجهة، بقدر ما علينا النظر لما يفعلهُ الطرف الذي يقود المواجهة ضد النظام التركي، على هذا الأساس لا تُخفي الكثير من الأوساط السياسية الأوروبية اعتقادها أن من قرر قصف القوات التركية وإلحاق هذا العدد الهائل من الخسائر بثاني أكبر جيش في الناتو، اتخذ قرارهُ وهو جاهز لكلّ الاحتمالات بما فيها حرب كبرى ومواجهة مع «ناتو» بشكلٍ كامل. حتى الإصرار الغربي على الدخول بمتاهة تحديد هوية من قصف بدا نوعاً ما هروباً للأمام: هل هو الطيران الروسي أم الطيران السوري؟ هم يريدون أي طريقةٍ للهروب من إعادة تعويم الجيش العربي السوري كقوةٍ على الأرض قالوا بأنها زالت منذُ ثماني سنوات، أو الادعاء بأن من فعل هذا الأمر فعله دونما تنسيق مع حليفه الآخر. حتى الآن بدوا كمن يريد الدخول في تفاصيل لاتسمن ولا تغني من جوع، فأياً كان من اتخذ القرار فهو حكماً لم يتخذهُ منفرداً، بعكس ما يجري في الطرف الآخر: هل يجرؤ أحد من عتاة السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي على تبني ما يقوم به أردوغان في سورية علناً؟! الجواب عملياً لا، هذا عن الاتحاد الأوروبي لكن ماذا عن «ناتو»؟
من الواضح أن اجتماعات «ناتو» التي تستهدف دراسة التطورات بما فيها التصعيد الجاري على الأرض السورية قد لا تختلف كثيراً عن اجتماعات الجامعة العربية لتعزيز الأمن القومي العربي، فالحديث عن تفعيل المادة الخامسة هو حلم أردوغاني ضاع بين تصريحاتٍ لقادة «ناتو» تشبه كثيراً عبارة «لن نتحمل عواقب القرارات التي يتخذها الآخرون»، أما بيانات التنديد والاستنكار فهي جاهزة تماماً كجهوزية دفعات اللاجئين التي يتاجر بها أردوغان، أما من يرفعون الصوت منادين بضرورة إيجاد حل ووقف التدحرج نحو مواجهةٍ أوسع فندعوهم ببساطةٍ أن يسألوا أنفسهم الأسئلة التالية:
أولاً: ماذا يريد أردوغان من سورية؟
هذا السؤال الجوهري لم يعد عملياً سؤال خصوم أردوغان في الخارج، بقدر ما هو سؤال خصوم أردوغان في الداخل، لأن الجواب عن هكذا سؤال هو عملياً جزء من الحل وليس جزءاً من المشكلة، تحديداً أن الجنود الأتراك قُتلوا على الأرض السورية، والحرب على الإرهاب وتنفيذ الاتفاقات السابقة تبدو كشرطٍ أساسي لمعرفة الإمكانية الفعلية للوصول إلى أرضيّةٍ مشتركة، هذا الأمر يرفضه النظام التركي جملةً وتفصيلاً، فهو مثلاً يتحدث عن خطرٍ قادم من الجهة الجنوبية للحدود لكن هذه الذريعة تسقط فعلياً بوصول قوات الجيش العربي السوري إلى الحدود وليس بقيام تركيا باحتلال المناطق الحدودية، عندما تصل هذه القوات ويتم انتهاك الأمن القومي التركي بتواطؤٍ سوري عندها يستطيع أردوغان أن يشتكي أو يبرّر تصرفاته بذريعة حماية الأمن القومي التركي، ماعدا ذلك فهو ذرٌ للرماد في العيون لا أكثر.
ثانياً: ماذا عن السقوف المرتفعة للأوهام الأردوغانية؟
انتهت اليوم عملياً المهلة التي منحها أردوغان لانسحاب الجيش العربي السوري من المناطق التي حررها خلال الشهر المنصرم، وهي تعادل عملياً مساحة إدلب بالكامل إذا ما أضفنا إليها أرياف حماة وحلب. يدرك الجميع أن تهديدات أردوغان البهلوانية لن تأتي بنتيجة، بل على العكس هي نوعٌ من الكذب الذي يمارسهُ على شعبه وهو سيستمر، وقد تبدو فرضية إعادة المشاورات مع الروس كنوعٍ من إنزاله إلى الأرض ونكوصه بالمواعيد التي حددها كنوع من حسن النية الناتج عن ترك المجال للدبلوماسية كي تقوم بعملها. لكن أياً كانت المهل وأياً كانت الجهود الدبلوماسية لا يمكن الحديث عن إمكانية أن تقوم القيادة السورية بتنفيذ هذه المطالب الأردوغانية، ربما قد يكون هناك إمكانية لإعادة صياغة اتفاقٍ جديد لا ينتهك الثوابت السورية ويتخذ من الواقع على الأرض نقطة أساسية لبدء التفاوض لمرحلةٍ قادمة محددة، عدا ذلك هو مضيعة للوقت، إذ ليست مشكلة القيادة السورية بأن هناك من يعيش الوهم، فسورية ليست نجاراً يتقن صناعة السلالم لكل من يريد أن ينزل عن شجرة أوهامه، وإنما تتقن سورية أيضاً، من بين كل ما تتقنه في فن النّجارة، تصنيع التوابيت الخشبية لتدفن بها المؤامرات التي تتربص بها والتي تتخذ من الإرهاب والتجارة بالبشر ملاذاً.
ثالثاً: ماذا تعني سياسة أن تكذب أكثر؟
قد يستطيع الأمعة أردوغان أن يتباكى على جنوده القتلى في إدلب وادعاءه بأنهُ كان يختزنهم لتحرير القدس، لكن عليه أولاً وأخيراً أن يطلب من رئيس وزراء العدو الصهيوني بنيامين نتنياهو عدم تعزيته بهم، وإلا فتصبح هذه التعزية كمن يجعل من أردوغان أضحوكة: كيف يعزيك بجنود سترسلهم إليه لإنهاء «دولته»!
لكن الكذب الأردوغاني هذه المرة اتخذ أشكالاً جديدة تستند لمقولة: «كاد المريبُ أن يقول خذوني»، فالإرهابيون في سورية اعتادوا مع كلّ حدثٍ مفصلي يُنهي وجودهم، الحديث عن استخدام ما يسمونهُ النظام السوري للسلاح الكيميائي لتبدأ التمثيليات التي تدعم هذا السيناريو. أردوغان بالأمس بدا كمن كان يجلس قبل أسابيع مع المجرم أبي محمد الجولاني عندما تحدث عن تدمير الطيران التركي لمنشأة خاصة بالسلاح الكيميائي في حلب، لن نخوض هنا في صحة هذه الفرضية من عدمها فهي مضيعة للوقت، ولن نتحدث عن الأثر الكيميائي الذي قد يصيب حلب كلها بالتلوث فيما لو كان الكلام دقيقاً، لكننا نتساءل من وحي الحدث: كيف يمكن لنظام لا يسيطر على شيء أن يُقيم منشأة للسلاح الكيميائي في حلب؟
هذا السؤال عملياً يكشف الكذب الأردوغاني المستمر، إلا إن كانت معامل أدوات التنظيف باتت معامل للسلاح الكيميائي، ربما هي كذلك لكن على أردوغان ومن يصدقهُ أن يتذكر بأن معامل أدوات التنظيف في العالم أجمع غير قادرة على تصنيع منتجٍ يزيل القذارة التي يمتلكها أمثاله، فماذا ينتظرنا؟
«لسنا دعاة قتلٍ وتدمير».. رحم اللـه من قال هذه العبارة بداية حرب تشرين التحريرية، بل لن نكون يوماً دعاة لذلك، لكننا نسعى لدفن أطماع الآخرين بنا، باختصار نحن في نقطة اللاعودة، إما أن تنتهي الحرب السورية بهدوءٍ أو تتسع رقعتها، من الواضح أنه ليس من مصلحة كثرٍ انتهاء الحرب السورية ولا اتساعها، بمعزلٍ عن ذلك نحن أمام بدهية حقيقية جوهرها الأساس: نحن غير مسؤولين عن قرارات الآخرين فما بالك إن كانت قراراتهم يعتريها الدم والخراب؟

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock