مانعيشه جزء طبيعي من تحولات كبرى تمر بها الدول

يمر السوريون في هذه المرحلة الدقيقة من تاريخ وطنهم بلحظات تتفاوت فيها المشاعر بين القلق والرجاء، وبين الحذر من القادم والتطلع إلى الأفق، فالمشهد العام بما يحمله من تحديات داخلية وضغوطات خارجية وصراعات متعددة الأوجه قد يبعث على الإحباط لدى البعض، لكنه في جوهره لا يختلف عن تلك المراحل الحاسمة التي مرت بها شعوب عديدة قبيل نهوضها.
إن ما تشهده سوريا اليوم يشبه إلى حد بعيد مخاض الولادة التاريخية، فكما أن الألم يسبق ميلاد الحياة، فإن الأزمات قد تكون مدخلاً حتمياً نحو الانبعاث الوطني الجديد. ومن غير المنصف أن يتحمل هذا (المولود المنتظر) مسؤولية الأوجاع التي سببها قبيل ولادته، لأن ما نعيشه هو جزء طبيعي من تحولات كبرى تمر بها الدول في منعطفات حاسمة من تاريخها.
إن الدولة السورية بما تمتلكه من عمق حضاري وإرث تاريخي وموقع جيوسياسي مركزي مؤهلة لعبور هذه المرحلة وتحقيق نهضة شاملة تستند إلى قيم العدالة والسيادة والوحدة والكرامة الوطنية، وإن قراءة التاريخ الحديث تثبت أن كبرى الدول لم تبلغ ما بلغته من استقرار وتقدم إلا بعد أن عبرت مراحل صعبة من التحديات البنيوية.
فألمانيا على سبيل المثال لم تصبح اليوم واحدة من أعمدة الاقتصاد العالمي إلا بعد أن خاضت سلسلة من الحروب والصراعات الداخلية انتهت بتوحيد شعبها على يد المستشار الحديدي بسمارك، لتبني لاحقاً دولة حديثة تحترم القانون وتعلي من شأن المواطنة.
وكذلك الولايات المتحدة الأمريكية لم تصل إلى مكانتها الدولية الحالية إلا بعد حرب أهلية طويلة ومعقدة رافقتها انقسامات داخلية حادة، لكنها استطاعت عبر منظومة دستورية قوية ومصالحة وطنية مدروسة أن تنتقل من الفوضى إلى الوحدة ومن الانقسام إلى الاتحاد.
إن التاريخ مليء بالأمثلة التي تؤكد أن المحنة قد تكون بوابة المنحة، وأن الدول لا تبنى في أوقات الهدوء فقط، بل أحياناً في أحلك لحظات الصراع إذا توفرت الإرادة الوطنية الجامعة.
ما تمر به سوريا اليوم هو اختبار للثبات والوعي، وتمهيد لتحول استراتيجي عنوانه الأمل وسلاحه الصبر، ونتيجته المنتظرة دولة قوية عزيزة ذات سيادة حقيقية على كامل ترابها لتستعيد موقعها الطبيعي بين الأمم وتكرس حضورها التاريخي والسياسي في محيطها العربي والإقليمي.
ومن المهم أن نعي جميعاً أن الوحدة الوطنية ليست هدية من الزمن أو صدفة تاريخية، بل خيار وطني شجاع، وإن إعادة ترميم المجتمع السوري هي مسؤولية جماعية تقوم على قاعدة الاحترام المتبادل بين مكونات المجتمع بعيداً عن الولاءات الضيقة، فالوطن لا يختزل في رأي واحد، والنهضة لا تبنى على أنقاض الآخر بل على قاعدة الانتماء الوطني وعبر جسور المصالحة وبقرار سيادي تتخذه القيادة والشعب معاً.
نعم، ما مررنا به من دمار مؤلم… وشتات موجع… كان قاسياً.
نعم، التحديات لا تزال جسيمة.
لكن سوريا بتاريخها وقيادتها الجديدة وشعبها قادرة على تجاوزها والانطلاق نحو مستقبل مشرق يرتكز على العمل المؤسساتي والتنمية المستدامة والهوية الوطنية الجامعة.
سوريا التي نطمح إليها ليست حلماً بعيداً بل واقعاً قادماً نرسمه معاً بالتضحية والوفاء والثقة بالدولة ومؤسساتها، وكما توحدت ألمانيا وكما نهضت الولايات المتحدة، فإن سوريا قادرة على تجاوز جراحها لتكون كما أرادها أبناؤها دوماً: دولة قوية… مستقلة… مزدهرة… موحدة.
بقلم: محمود صالح الناصيف