مقالات وآراء

ما الذي يمنع تطور البحث العلمي في سورية؟

إعداد: علي فيصل معروف – ماجستير في إدارة الابتكار.

استطاع العديد من الدول تحقيق التقدم الاقتصادي والاجتماعي المبني على التطور التقني؛ حيث تبرز اليابان وكوريا الجنوبية كأمثلة على دول استطاعت السير على هذا الطريق بعد خروجها من حروب أثرت بشكل كبير على اقتصادها وبنيتها التحتية.

سُجّل في هذه الدول نمو في معدلات الإنفاق على البحث العلمي مرافق ودافع للنمو الاقتصادي، تقودنا هذه الأمثلة للتفكير بمدى القدرة على تحقيق نموذج مشابه للنمو في سورية وكيفية تحقيق ذلك.

يجري البحث العلمي في مؤسسات التعليم العالي والمراكز البحثية، إضافةً إلى الشركات المبنية على المعرفة.

قامت الدول التي حققت التطور الاقتصادي المبني على المعرفة بزيادة الإنفاق على البحث العلمي سواء عبر الإنفاق المباشر على المؤسسات العلمية الحكومية أم عبر تقديم الحوافز للقطاع الخاص لتشجيعه على الإنفاق على البحث العلمي.

تفسر النظريات الاقتصادية ضرورة تدخل الدولة ودعمها للاستثمار في البحث العلمي بفشل السوق (الشركات الربحية) في القيام بذلك بالمعدلات المطلوبة لأن أنشطة البحث العلمي يرافقها مستوى عالٍ من عدم اليقين بالنتائج التي ستُحقق ما يرفع مخاطر الاستثمار؛ وبالتالي من واجب الحكومة تخفيف هذه المخاطر باستخدام مجموعة من الإجراءات الداعمة للقطاع الخاص المستثمر في البحث العلمي.

أما في سورية فقد تحقق توسع ملموس في منظومة التعليم العالي ظهر في افتتاح جامعات جديدة وزيادة استيعاب الطلاب في الجامعات، إضافة إلى البدء بمنح الدكتوراه داخلياً في عدد من الاختصاصات، إلا أن هذا التوسع لم يرافقه نمو في مستوى البحث العلمي في قطاع التعليم العالي، يشهد على ذلك عدد المنشورات العلمية السورية في المجلات المحكمة العالمية، المنخفض جداً مقارنةً بدول الجوار بما فيها لبنان والعراق والأردن وفلسطين المحتلة، وعدد براءات الاختراع شبه المعدوم للمؤسسات العلمية السورية، كما تمتلك سورية عدداً من المؤسسات البحثية خارج المتخصصة، وعلى الرغم من أن نشاط هذه المؤسسات موجه بشكل أساسي للبحث العلمي وليس للتدريس إلا أن مؤشرات نتاجها العلمي (عدد المنشورات العلمية، عدد براءات الاختراع، قيمة التقانات المسوقة) ليست بالمستوى المطلوب، في حين يغيب البحث العلمي بشكل كلي تقريباً عن الشركات.

يعزو عدد من الباحثين انخفاض مستوى البحث العلمي في سورية إلى ضعف الدعم والتمويل الحكومي، وعلى الرغم من أن هذه الفرضية لا تبدو خاطئة إلى أنه لا بدَّ من السّؤال حول سبب ضعف الدّعم الحكومي للبحث العلمي في الجامعات والمراكز البحثية وقطاع الأعمال حتى قبل الأزمة، فعلى الرغم من أن الحكومي، وعلى الرغم من أن هذه الفرضية لا تبدو خاطئة إلى أنه لا بدَّ من السّؤال حول سبب ضعف الدّعم الحكومي للبحث العلمي في الجامعات والمراكز البحثية وقطاع الأعمال حتى قبل الأزمة، فعلى الرغم من أن الحكومة كانت قد اتخذت خطوات لدعم هذه الأنشطة عبر تأسيس الهيئة العليا للبحث العلمي، وإصدار قانون التفرغ الذي زاد من دخل الأساتذة الجامعيين بشكل ملحوظ مقارنةً بأقرانهم من الموظفين، إلا أن مستوى الإنفاق الحكومي على البحث العلمي بقي متدنياً، حيث بلغ في عام 2015 ما مقداره 900 مليون ليرة سورية فقط بحسب بيانات الهيئة العليا للبحث العلمي.

يفسر الباحثون ضعف الدعم الحكومي بأنَّ الحكومات المتعاقبة تطلب أبحاثاً علمية قادرة على المساهمة في تحقيق التنمية الاقتصادية الاجتماعية بحيث تلمس الحكومة أثراً اقتصادياً إيجابياً من تمويل هذه الأبحاث، في حين يطلب الباحثون تمويلاً لإنجاز أبحاث كهذه، ما يدخلنا في دوامة أيهما قبل “البيضة أم الدجاجة”؟ وللإجابة عن هذا السؤال لا بد لنا من الاقتناع بأننا لا نشكل استثناءً في هذا العالم وأنه يجب علينا الاستفادة من تجارب الآخرين الذين سبقونا في هذا المجال.

تنظّم دول عالمية عديدة -ومنها اليابان وكوريا- مساهمة البحث العلمي في التنمية عبر تطوير سياسات للعلوم والتقانة والابتكار.

تحدد الدول عبر هذه السياسات أولوياتها وأهدافها، حيث تُعرّف بدايةً مجموعة من القطاعات ذات الأولوية (كالتقانات النانوية أو الحيوية مثلاً) ومن ثم تُحدَّد الأسواق والمنتجات التي يجب العمل على تطويرها والمحاور البحثية العلمية والتقنية المرتبطة، كما تتضمن السياسة اتخاذ حزمة من الإجراءات الهادفة إلى تطوير الابتكار والبحث العلمي في القطاعات ذات الأولوية (كدعم الشركات المتخصصة، تبني إصلاحات إدارية وغيرها).

والجدير بالذكر أن سورية كانت قد طورت سياسة للعلوم والتقانة والابتكار أقرتها الحكومة عام 2017. وبالتالي من حيث المبدأ تمتلك سورية سياسةً حددت فيها أهدافها لتطوير العلوم والتقانة والابتكار؛ فما الذي يمنع تقديم دعم حكومي لتنفيذها على شكل برامج حكومية في قطاعات مختلفة؟ بدلاً من اختيار عدد محدود من المشاريع وتمويلها كما جرى في نهاية العام الماضي، حيث أعطيت الموافقة على تمويل 30 مشروعاً في مجالات علمية مختلفة بمبلغ 425 مليون ليرة سورية.

يكمن الجواب عن هذا السؤال في السياسة نفسها، فعلى الرغم من أن السياسة تحدّد محاور ومواضيع بحثية في 15 قطاعاً (زراعة، صناعة وغيرها)، إلا أنها لا توضّح كيف ينعكس أثر الأبحاث في هذه المواضيع على التطور الاقتصادي والاجتماعي في سورية، حيث طُوّرت الملفات الخاصة بكل قطاع في هذه السياسة من قبل باحثين متخصصين أجابوا عن نصف السؤال فقط وهو في أي المواضيع يجب علينا أن نبحث. ولكن أغفلوا الإجابة عن السؤال الأهم وهو لماذا نقوم بهذه الأبحاث؟ وماذا ننتظر منها؟ وبالتالي فإن الملف هو سياسة للعلوم والتقانة فقط أي يعرف فقط مواضيع بحثية وتقنية ويغيب عنه تحديد الأسواق والمنتجات والصناعات، وبالتالي هو بعيد كل البعد عن الابتكار الذي يشكل انعكاساً للتطور التقني في الأسواق عبر طرح منتجات وخدمات جديدة؛ ما ينعكس بشكل مباشر على حجم الاقتصاد ومستوى تطوره. وطالما لم تحدد السياسة أي الصناعات والمنتجات نحتاجها وفي أي أسواق سنطرحها فإنها لم تربط بين البحث العلمي والتطوير التقني من جهة والتطور الاقتصادي الاجتماعي من جهة ثانية، وبالتالي فإن سؤال الحكومة عن أثر دعم البحث العلمي والتطوير التقني على التطور الاقتصادي الاجتماعي يبقى دون إجابة وقائماً ومشروعاً.

لحل هذه المعضلة لابد أن تساهم الحكومة والجهات البحثية في إيجاد الحلقة المفقودة. فسورية الخارجة من الحرب لا بد أن تصرف مواردها القليلة بدقة، كما أن تحقيق نمو اقتصادي بالاعتماد على التطور التقني يشكل حاجة لا غنى عنها لاستدامة هذا النمو وعدم اعتماده على القطاعات الريعية فقط يشكل الابتكار الحلقة المفقودة بين البحث العلمي من جهة وتحقيق التطور الاقتصادي من جهة ثانية. وبالتالي لا بد لسورية بالتشارك بين حكومتها وجهاتها البحثية وقطاع الأعمال أن تُعرّف المنتجات والأسواق الجديدة التي ستستهدفها (محلياً وخارجياً) لا سيما في مرحلة إعادة الإعمار، وأن تحدد تالياً المجالات العلمية والتقنية المرتبطة بها، التي يجب تطويرها ومن ثم تقديم الدعم للبحث العلمي في هذه المجالات في التعليم العالي والمراكز البحثية والشركات وبهذا نجد لغة مشتركة بين الحكومة الساعية إلى تحقيق نتيجة من الموارد المستثمرة والباحثين الراغبين بتحقيق إنجازات علمية في تخصصهم ورجال الأعمال الراغبين بالاستثمار.

تطوير استراتيجية للعلوم والتقانة والابتكار تحتوي فعلياً مكوناتها الثلاثة وتربط بينها لا يعد مهمةً سهلة أبداً، إذ لا بد أن ترافقها جهود وإجراءات لتنسيق هذا العمل مع تطوير القطاعات المرتبطة (التعليم العالي، دعم الشركات الكبيرة والصغيرة والمتوسطة، ودعم ريادة الأعمال الغائب عن سورية) ولا بد للقيام بذلك من توافر إرادة وطنية وإتاحة الخبرات اللازمة، التي قد لا تتوافر جميعها في سورية نظراً لحداثة هكذا مواضيع على منظومتنا الإدارية، إلا أن بداية السير على هذا الطريق ستفتح لنا الأفق لتحقيق جزء مما حققته دول عديدة كانت في أوضاع اقتصادية صعبة كالتي تمر بها سورية حالياً، إلا أن بُعد الرؤية وتوافر الإرادة ساعداها على إدارة التحول نحو الاقتصاد المبني على المعرفة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock