اقتصادالعناوين الرئيسية

ما رأي خبراء الاقتصاد بتصريحات الحاكم ؟ شفافية في جزء ومبالغات في جزء آخر

تطفو على سطح التصريحات الرسمية أرقامٌ تَعِدُ بالاستقرار، فيما تغوص في أعماق التقارير الإحصائية وقائعُ تُظهرُ اتساعَ الهُوَّة. يبرز تناقضٌ صارخ بين خطاب المؤسسة النقدية ومؤشرات الاقتصاد الكلي، حيث تتحول المصطلحات الفنية إلى ساحة لعمليات حسابية ذات دلالة سياسية. في هذا الفضاء المشحون بين الرقم والخطاب، يصبح كلُّ تقديرٍ جديراً بالفحص، وكلُّ وعْدٍ محطَّ مساءلة.

تصريح حاكم مصرف سوريا المركزي، عبد القادر الحصرية، الذي تناول فيه ملفات حيوية كالتضخم، ومستقبل القطاع المصرفي، وتأثير العقوبات، أثار جدلاً واسعاً في الأوساط الاقتصادية.

أستاذ الاقتصاد في جامعة دمشق الدكتور ياسر مشعل يرى في حديثه لـ “الوطن” أن تصريح حاكم المصرفي يحمل  مزيجاً من الشفافية الإيجابية في ملفات محددة (كالانكشاف المصرفي على لبنان) والمبالغات أو التناقضات الواضحة مع البيانات الاقتصادية المتاحة، خاصة ما يتعلق بمؤشرات الاقتصاد الكلي الحساسة.

 التضليل الإحصائي

ولكن رأى مشعل أن النقطة السلبية الأبرز في تصريح حاكم المركزي هي ادعاء تراجع معدل التضخم من 170بالمئة عشية سقوط النظام إلى 15بالمئة حالياً. معتبراً أن هذا الادعاء يفتقر إلى المصداقية العلمية ويصنف ضمن التضليل الإحصائي (Statistical Misrepresentation).

الفارق الجوهري بين التضخم السنوي والشهري

واستعرض أستاذ الاقتصاد جوهر الدحض العلمي موضحاً أنه يكمن في التمييز بين نوعين من قياس التضخم:

* معدل التضخم السنوي (Year-on-Year – Y-o-Y): وهو المقياس المعياري عالمياً، ويقارن الأسعار في شهر معين بالشهر نفسه من العام السابق. هذا المقياس يعكس القوة الشرائية الحقيقية للعملة على مدى عام كامل.

* معدل التضخم الشهري (Month-on-Month – M-o-M): يقارن الأسعار بالشهر الذي سبقه مباشرة، ويستخدم لتقييم التغيرات قصيرة الأجل.

وأضاف: إن مقارنة تضخم سنوي سابق (170 بالمئة) بمعدل تضخم شهري حالي (15 بالمئة) هي مقارنة غير متكافئة. تشير البيانات الصادرة عن المكتب المركزي للإحصاء إلى أن معدل التضخم السنوي الحقيقي في سوريا للفترة من مارس 2024 إلى شباط 2025 بلغ نحو 36.8 بالمئة.

المقياس القيمة المعلنة (الحصرية) القيمة الحقيقية (البيانات الرسمية) التحليل العلمي

التضخم السنوي 15 بالمئة (مضلل) 36.8 بالمئة 1 الرقم الحقيقي لا يزال مرتفعاً جداً، ويعني تآكل القوة الشرائية بأكثر من الثلث سنوياً.

التضخم الشهري (15 بالمئة) 15 بالمئة (مستخدم للمقارنة) 15.87 بالمئة 3 إذا استمر هذا المعدل الشهري، فإن التضخم السنوي المركب سيصل إلى نحو 335 بالمئة، مما يؤكد أنه معدل كارثي ولا يمثل استقراراً.

وأشار إلى وجود تباطؤ في معدل التضخم (وهو أمر إيجابي)، ولكن القفز من 170 بالمئة إلى 15 بالمئة في فترة وجيزة، خاصة في ظل استمرار تحديات الإنتاج والعقوبات، يثير شكوكاً كبيرة حول منهجية الحساب. غالباً ما يتم استخدام التضخم الشهري أو التضخم السنوي على أساس شهري (Month-on-Month) بدلاً من التضخم السنوي التراكمي (Year-on-Year) لخلق انطباع زائف بالاستقرار.

إن معدل تضخم سنوي يبلغ 36.8 بالمئة هو دليل على فشل السياسة النقدية في تحقيق هدفها الأساسي، وهو الحفاظ على استقرار الأسعار، حيث إن الهدف العالمي للتضخم يتراوح بين 2 بالمئة و 3 بالمئة بالمئة. إن استخدام البنك المركزي لبيانات إحصائية مضللة يقوض ثقة الجمهور والمستثمرين في البيانات الرسمية، وهو ما يعوق أي جهود لتحقيق الاستقرار النقدي.

  1. القطاع المصرفي: مبالغة في التوقعات وشفافية في المخاطر

ولفت المشعل إلى تضمن تصريح الحصرية نقطتين متناقضتين حول القطاع المصرفي: الأولى إيجابية تتعلق بالشفافية، والثانية مبالغ فيها تتعلق بالتوقعات المستقبلية.

واقعية توقع 35 مصرفاً بحلول 2030

توقع الحصرية وصول عدد المصارف العاملة في سوريا إلى 35 مصرفاً بحلول عام 2030، ارتفاعاً من نحو 16 مصرفاً حالياً. هذا التوقع هو مبالغة طموح وغير واقعية في ظل الظروف الحالية. معتبراً أن العقوبات الدولية (قانون قيصر) تعد هذا العائق الأكبر.  ما دامت العقوبات الثانوية سارية، فإن أي بنك دولي يقرر دخول السوق السورية يواجه خطر القطع الفوري عن النظام المالي الأمريكي والدولي (De-risking)، وهو ثمن باهظ لا يمكن تحمله مقابل سوق صغير ومحفوف بالمخاطر.

كما أن البيئة الاقتصادية الداخلية تعتبر عائقاً مع معدل التضخم المرتفع (36.8 بالمئة) 1 وانعدام الاستقرار النقدي اللذين يمثلان بيئة طاردة للاستثمار المصرفي. كما أن الإشارة إلى أن المصرف المركزي السابق “تصرف بودائع القطاع المصرفي الخاص” 5 أدت إلى انعدام الثقة، واستعادتها تتطلب سنوات من الإصلاحات الهيكلية والشفافية، وليس مجرد زيادة عدد البنوك.

ولفت إلى ان التركيز على الجودة لا الكمية يعتبر عائقاً أيضاً إذ لا يقاس نجاح القطاع المصرفي بعدد البنوك، بل بـعمق الخدمات وكفاءة إدارة المخاطر. البيئة السورية تتطلب التركيز على إعادة هيكلة وتقوية المصارف الحالية واستعادة ثقة المودعين، قبل التفكير في استقطاب 19 بنكاً جديداً.

الشفافية حول الانكشاف على لبنان

يرى المشعل أن الإعلان عن حجم الانكشاف المصرفي على لبنان بقيمة 1.6 مليار دولار واتخاذ قرار بتكوين مخصصات بنسبة 100 بالمئة هو إجراء سليم فنياً ويتماشى مع المعايير الدولية (مثل IFRS 9). هذا الإجراء يعكس خطوة إيجابية نحو الشفافية ومعالجة الفشل السابق في إدارة المخاطر المصرفية، لكنه في الوقت نفسه إدانة صريحة للممارسات السابقة التي أدت إلى هذا الانكشاف.

وقال: رغم أن الإجراء المحاسبي سليم، إلا أنه يعكس فشلاً في إدارة المخاطر المصرفية (Credit Risk Management) والرقابة المصرفية (Banking Supervision) من  المصرف المركزي. كما أن الإشارة إلى أن “المصرف المركزي تصرف بودائع القطاع المصرفي الخاص” هي إدانة صريحة لممارسات سابقة أدت إلى انعدام الثقة، وهو ما يتطلب معالجة أعمق من مجرد تكوين مخصصات.

 قانون قيصر: شرط ضروري وليس معجزة

وحول تصريح الحصرية بأن “التفاهم على التصويت بشأن الرفع النهائي لقانون قيصر” سيكون “بشرى كبيرة” وأن رفع العقوبات يشبه “المعجزة”.

يرى المشعل أنه وبالنظر إلى واقعية التفاهم السياسي تشير التقارير الإخبارية الحديثة (كانون الأول 2025) إلى أن الكونغرس الأمريكي قد توصل بالفعل إلى اتفاق مبدئي لإدراج بند إلغاء عقوبات “قانون قيصر” ضمن مشروع قانون تفويض الدفاع الوطني (NDAA) 6 7. هذا التطور السياسي واقعي ومهم، ويُعد خطوة إيجابية نحو إزالة عائق كبير أمام القطاع المصرفي والتجارة الخارجية.

رد أستاذ الاقتصاد علمياً على تصيد “المعجزة” وصافاً تصريح الحصرية بأن رفع العقوبات يشبه “المعجزة” هو تصيد سياسي يهدف إلى تحميل العوامل الخارجية المسؤولية الكاملة عن الأزمة الاقتصادية، معيداً ذلك إلى التأثير الاقتصادي، فرفع قانون قيصر هو شرط ضروري للتعافي، لكنه ليس شرطاً كافياً. لن يكون له تأثير تحويلي فوري ما لم يرافقه إصلاحات هيكلية داخلية، كما ذكَّر بالقيود المتبقية، فرفع “قيصر” لا يلغي العقوبات الأمريكية والأوروبية الأخرى المفروضة على أفراد وكيانات سورية. كما أن البنوك الدولية ستظل حذرة للغاية (De-risking) بسبب مخاطر غسيل الأموال والفساد وغياب الشفافية في البيئة السورية. وشدد على الأولوية النقدية إذ  يجب أن يركز البنك المركزي على السيطرة على التضخم (36.8 بالمئة)، وهو مشكلة داخلية نقدية ومالية، بدلاً من التعويل على حدث سياسي خارجي.

 تحويلات المغتربين (4 مليارات دولار)

وحول تصريح الحاكم بأن تحويلات المغتربين تقدر بنحو 4 مليارات دولار منذ انهيار النظام .

قال المشعل: الإشارة إلى ذلك “منذ انهيار نظام الأسد” (وهو حدث حديث نسبياً) تجعل الرقم (4 مليارات دولار) يبدو ضخماً. ولكن تشير تقديرات البنك الدولي لعام 2024 إلى أن إجمالي التحويلات السنوية إلى سوريا قد يصل إلى نحو 8 مليارات دولار. إذا كان هذا الرقم صحيحاً، فإن ادعاء 4 مليارات دولار منذ التحرير (في فترة زمنية قصيرة) قد يكون مبالغاً فيه أو يشير إلى أن جزءاً كبيراً من التحويلات لا يزال يتم عبر القنوات غير الرسمية (التي لا يستطيع البنك المركزي احتسابها بدقة).

مضيفاً: فالرقم المعلن (4 مليارات دولار) يمثل نقطة إيجابية للاقتصاد، لكنه قد يكون أقل من الواقع السنوي الفعلي (8 مليارات دولار سنوياً حسب تقديرات دولية)، مما يشير إلى أن البنك المركزي لا يزال يواجه تحدياً في استقطاب هذه الأموال عبر القنوات الرسمية.

وختم المشعل بالقول: يظهر تحليل تصريح حاكم مصرف سوريا المركزي أنه محاولة للموازنة بين الشفافية الفنية (في ملف الانكشاف على لبنان) والتصيد الإحصائي والسياسي (في ملفي التضخم وقانون قيصر).

إن الاستقرار الاقتصادي الحقيقي لا يتحقق عبر الأرقام المنتقاة أو الوعود السياسية، بل عبر الإصلاحات الهيكلية الداخلية الجذرية، وعلى رأسها:

1.الالتزام بالشفافية الكاملة في البيانات الاقتصادية، ودحض التضليل الإحصائي حول التضخم.

2.استعادة الثقة في النظام المصرفي والقضائي.

3.معالجة التضخم المرتفع عبر سياسات نقدية ومالية مسؤولة.

لن يكون لرفع قانون قيصر تأثير تحويلي ما لم يتبعه البنك المركزي والحكومة بخطة إصلاح شاملة وموثوقة لمعالجة المشاكل الداخلية، بدلاً من تقديم توقعات كمية مبالغ فيها مثل الوصول إلى 35 مصرفاً.

محمد راكان مصطفى

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock