منوعات

متى ولدت قصيدة الومضة؟ … وهل حضورها الحالي له دلالته الزمنية والتجريبية؟

يحاول التأصيليون والميالون إلى الراديكالية أن يجدوا لكل مستحدثٍ وطارئ جذراً وهويةً من التراث ليعترفوا به، وإلا فإن البطاقة الحمراء ترفع في وجه أي جديد، وكثيراً ما يكون رفض الجديد صعباً وأقرب إلى المستحيل فيجنحون إلى لصق اعتراف من التاريخ كي يسبغوا عليه شرعيته من وجهة نظرهم على الرغم من أن هذا الإسباغ يبدو فجاً ومكشوفاً، وقد يثير ضحك الباحث المتفرج المتتبع!! وقد احتلت هذه الطريقة في بلاد الشرق – التي تعج بالتأصيليين – المساحة الأوسع في الفهم والقبول وشملت مختلف المجالات والعلوم، لا بل حتى تعارضت مع علومٍ بأكملها، وهذا الأسلوب تابع مسيرة تطور القصيدة فلقد ووجهت أية نقلةٍ في الشعر حالةً من القياس على الماضي بمختلف تطوراته. ومقصد هذا الكلام هو الوصول إلى قصيدة الومضة التي ترتسم ملامحها منذ عقدين وأكثر لتكون الأسلوب والصبغة التي يكتب من خلالها شاعرٌ ما كل تجربته الشعرية، مبتعداً في قصيدته أن يسمح لها بأكثر من أسطرٍ قليلة. وحين انبرى المتفاجئون بهذا الأسلوب والباحثون عنه لتأصيله أيضاً اتكؤوا إلى الشعر العربي الجاهلي وبحثوا في قصيدة البيت الواحد المسبوك المتماسك الذي صار حكمةً تتردد على الشفاه عبر الأجيال واعتبرو أن هذا البيت بكل ما ورد في القصيدة من إطالةٍ وإطناب وللشاعر أدونيس كتاب بعنوان قصيدة البيت الواحد يورد فيه هذه أبيات دون ربطها مع قصيدة الومضة والكتاب هذا اكتسب شهرةً جراء الحملة القضائية التي طالت أدونيس مع كاتب مغربي….. اتهمه بأن الكتاب وفكرته له، وخارج هذا السجال يتكئ الكثيرون ممن يتلمسون حبر الماضي في أقلامهم إلى هذا الكتاب في تشريع قصيدة الومضة التي يبدو أن معرفة نسبها للشاعر الأول صعب وجدلي فكما يتفق معظم العرب أن قصيدة التفعيلة تعود إلى بلند الحيدري، وربما إلى نازك الملائكة وبدر شاكر السياب، وأن قصيدة النثر أعطاها سليمان عواد وبعده محمد الماغوط شكلها الأول مع أنسي الحاج وسنية صالح، إلا أن البحث في القصيدة الومضة الأولى يعتبر عملاً شاقاً، ويعود ذلك إلى حالة التقطّع والمقاطعة الرهيبة والتراجع البحثي عند أبناء المنطقة الواحدة بسبب ما فعلته السياسة والحروب فيهم، فكلما ازداد العالم تواصلاً ازدادوا هم انكفاءً على أنفسهم، وعند الاطلاع على عدد من الأبحاث التي تؤرخ لقصيدة الومضة ستجد أن الباحث بعد جهدٍ جهيد يستطيع البحث عنها في بلده، وبلدٍ ومجاورٍ واحد في أحسن حال. ثمة من يذكر الشاعر المصري «رفعت المرصفي» الذي تصدى لكتابة هذا النوع من الشعر باقتدار فقد بدأ في كتابته ضمن ديوانه الثالث «حروف على صفحة القلب» الصادر عام 1998. ولعدد من الشعراء السبق في تسميتها بالقصاصة الشعرية قبل أن يتعرفوا عليها بأنها قصيدة ومضة ويصبح هذا الاسم متفقاً عليه، ولكنهم أجمعوا على أن قصيدة الومضة أيضاً هي قصيدة الدهشة في أنقى معانيها..

تستنفر عقل
ويمكن القول باختصار إنها القصيدة التي تستنفر عقل وفكر المتلقي ليكون على قدر مستواها الفكري والأدبي. وكما يجمع الجميع بعد انتشار وسائل التواصل الاجتماعي على أن لكل عصر إبداعاته وحساسيته، ويقتنعون أن انتشارها، وليس ولادتها شجعته حالة السرعة لدى القارئ فهو يعجز عن قراءة نص ضخم عبر شاشة الموبايل مهما علت جودته ولكنه يتأثر بقصيدة ومضة كلماتها معدودة لا بل ربما يحفظها وتصير حكمة أيامه قافزاً بذلك عن حكمة الشعر العربي التي يجد أنه صار بحاجة إلى تحديثها وتقديم ما لديه تجاهها. ولكن من المهم السؤال: هل تقدم قصيدة الومضة الحالية حالة الحكمة؟ أم إنها عبارة عن شحن عاطفي حددت نفسها في هذا المجال العشقي المكثف؟ ويرى البعض أن المتلقي أصبح يُمطر بعدد ضخمٍ من النصوص السمعية والبصرية وأصبح تحت متناوله كم هائل من المواد المختلفة. ويكمن التحدي الجديد في عصر المعلوماتية في اقتناص المتلقي الذي لا يملك الكثير من الوقت، ويحتاج إلى أساليب مبتكرة للاستحواذ على اهتمامه. وقد أفادت القصيدة الومضة من تقنيتين أساسيتين لتكوين بنيتها، التقنية الأولى هي السرد، حيث يعتبر السرد عاملاً جاذباً في عملية التلقي، والقصيدة الومضة هنا تتلاقى مع القصة القصيرة جداً. والعامل الثاني هو عامل المفارقة، وهي بالأغلب مفارقة تتصل بأحد المعاني الوجودية. لا يوجد معايير نقدية خاصة بهذه القصيدة، وهذا يجعل الناقد يتعامل معها من منظور نظرية الشعر بشكلها العمومي، وربما من منظور نظرية الادب. ولكن لا بد من الإشارة إلى أن الشاعر أدونيس قد أورد في كتابه قصائد ومضة موزونة على وزن التفعيلة كانت ربما هي السابقة في وقتها فقد أوردها على شكل مقاطع تحت عنوان «أوراق في الريح» للمجموعة الشعرية التي تحمل نفس العنوان التي صدرت طبعتها الأولى عام 1958 ومنها نتذكر:
قال لي تاريخيَ الغارس في الرفض جذورهْ:
كلما غبتَ عن العالم أدركت حضوره.
وله أيضاً:
«أمسحُ بانتظاري
عناكب الغبارِ»
وأورد الشاعر نزار قباني الكثير من هذه التجارب تجمّع أكثرها في مجموعته الشعرية «لا غالب إلا الحب» المكتوبة أواخر الثمانينات والمنشورة بداية تسعينيات القرن الماضي ولكنه أورد هذه الومضات معنونة منها نذكر تحت عنوان « لغة» ما قاله:
«عطر الوردة
هو لغتها
لذلك، لا تضطر الوردةْ
إلى استعمال القاموسْ…»
وقد يبدو هذا الإيراد لشاعرين حداثويين محاولة أيضاً لـتأصيل ما يكتب حالياً وسحب رونق حالة الابتكار منه، ولربما هذا الرأي يورده الشاعر المصري أحمد عبد المعطي حجازي الذي يجد أن طول أو قصر القصيدة ليس دليل حداثتها وأن الإبداع فقط هو ما يجعلها مناسبة لكل عصر.

تكثيف وتجسيد
وبالتعريف نستطيع القول إنها قصيدة مكثفة مكتفية بذاتها تجسد موقفاً ما وتعبر عن حالة بسيطة أو مركبة أو إشكالية وجاءت بتسميات عدة منها، اللقطة، التوقيعة، القصيدة المركزة، القصيدة القصيرة، اللافتة، الملصقة وو.. ، لكن تسمية الومضة هي التي كان لها الحظ الأوفر من الشيوع، ربما لتضمنها المعنى البرقي الخاطف الذي يفي بمقاصدها وصفاتها من الإيجاز والاختزال والخطف، وإلى جانب التكثيف والتركيز تعتمد هذه القصيدة سمة أخرى هي الغنائية العالية، والحساسية الشعرية المتوهجة التي تنتج ردا سريعا، فهي قصيدة يعتمد تشكيلها على أسلوب السرد الخاطف والتركيز على الفكرة التي ترد مختزلة في لغتها، ونذكر لشاعر من سورية هو نجد القصي ديوانه الومضي المتميز «كاريكاتور الكلمات» عام 2015 ونذكر منه:
«حذارِ أيها الحبّ،
فعلى رأسك ريشة
وقد تسقط مع أول رعشة»
وهنا نجد شيئاً من مزايا قصيدة الومضة حيث هي منتقاة في لفظها، ويمكن تعليل حضورها المعاصر بسرعة إيقاع العصر سرعة هائلة لم تعد تتحمل القصائد القائمة على السرد الطويل، والإيقاعات البطيئة، ولذلك كانت الومضة والهايكو من الأنماط الشعرية التي نجد حضورها في تنامٍ مستمر. ولكن الأبرز هل تستطيع ذائقتنا البصرية والسمعية استيعاب حضور الجيد من الومضة وتقبله دون نكران، مع المحافظة على قدرتنا في التواصل مع القصيدة الطويلة دون إقصاء أو نكران فضل وهل يستطيع الشعراء ألا يستسهلوا قصيدة الومضة ولا يقدموا لنا جملاً مبتورةً جوفاء خالية من سمة الذكاء التي هي السمة الأبرز لقصّة الومضة، وللأيام حكمتها.

أحمد محمد السح

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock