مقالات وآراء

معركة إدلب في عمقها الأوروبي: دعكم مما يقال في العلن!

خلال مداخلة له في مؤتمر ميونخ للأمن، قال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون: «إن سياسة تحدي أوروبا لروسيا في ‏السنوات الأخيرة فشلت، خيارنا الوحيد هو التوجه لحوار أوثق مع ‏موسكو لحل الخلافات». هذه المصارحة الماكرونية وصفها البعض بالصادمة، والبعض الآخر اعتبرها واقعية سياسية متأخرة، لكن بكلتا الحالتين فإن تصريحات ماكرون لم تكن الأولى ولن تكون حكماً الأخيرة في هذا السياق التصالحي، بل هناك ما يعزز فرص تحوّلها في القريب العاجل من مجرد تصريحات إلى واقع ناتج عن إظهار الروس عكس ما يروّج عنهم تماماً، وصولاً لفرضية أن إعادة توصيف الروسي كصديق أو بأسوأ الأحوال «الجار اللدود» سارعت بتجليّه حقائق ومتغيرات كثيرة نلخصها بما يلي:
أولاً: حاجة أوروبية فرضتها المصداقية الروسية
واقعياً، بدأت هذه الحاجة تظهر إلى العلن تحديداً مع وصول الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى السلطة. الفكرة لم تقتصر على ما شكله نهج ترامب من امتداد لفكر يميني انعزالي متطرّف يرتفع نجمه بقوة في سماء السياسة الأوروبية، ويقود مجتمعاتها نحو صدامات داخلية دموية كان آخرها ما حدث في مدينة «هاناو» الألمانية، والهجوم الدموي على أماكن عامة يرتادها من لا ينتمون لأصول ألمانية، بل إن هذا الحادث دفع وزير الداخلية الألماني للاعتراف صراحةً بأن التهديد الأمني المرتبط باليمين المتطرف مرتفع جداً في البلاد. النقطة الثانية مرتبطة بالطريقة التي يتعاطى بها ترامب مع الحلفاء، فلا أحد يصدق مثلاً أن الطبقة السياسية الفرنسية هضمت وقاحته عندما وصف ماكرون بالغبي، دون تجاهل سعيه لإظهار الدول الأوروبية بالدونية التي لا تستوجب استشارتها بالملفات المهمة كـ«صفقة القرن»، أو حتى بالضعف الذي لا تستطيع معه الدفاع عن نفسها من دون الولايات المتحدة.
هناك من يأخذ المقاربة باتجاه أبعد، تنطلق من الحديث عن النهج الترامبي والذي قد يستمر لسنوات وليس حقبة دونالد ترامب، وبمعنى آخر:
إن جزءاً لا يستهان به من الناخبين الأميركيين هم صورة مطابقة عن فرط الوقاحة الذي يمثله دونالد ترامب، وقاحةٌ وقلة احترام ناتجة عن فرط القوة تارة، وعدم الاكتراث لخطورة إحراج الحلفاء بإظهار الحقائق الجارحة تارةً أخرى. هذا التناقض شكل دفعة للأوروبيين للبحث في الجهة المقابلة أو لنقل في القطب الثاني من القوة العالمية والتساؤل:
هل سبق للرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن تعاطى بتلك «الوقاحة» مع حلفائه؟ الجواب واضح، لأنه أساساً لا يتصرف بهذه الطريقة المهينة حتى مع الخصوم.
هذا التراكمات بالمصداقية الروسية في عيون الخصوم لم تكن مرتبطة فقط بالاتجاه الرسمي، بل أن هناك مدّاً شعبياً لا يستهان به بدا متحرراً في نظرته تجاه الروس تحديداً بالملف الأهم والذي يشكل هاجساً للشعوب الأوروبية أي مكافحة الإرهاب. على الأقل تكفي العينات التي تعبّر عن رأيها على مواقع كبريات الصحف الفرنسية مثلاً لنعرف بأن هناك فرقاً كبيراً للنظرة تجاه روسيا بين ما هو شعبي وما هو رسمي، حتى الحديث عن روسيا من باب الديكتاتورية أو «الديمقراطية الصورية» كما يتم تدريسها بالمناهج الفرنسية المعنية بالعلوم السياسية، باتت غير مؤثرة طالما أن الأسئلة المطروحة اليوم في المزاج الشعبي الأوروبي في مكان آخر:
هل حقاً باتت الديمقراطية كذبة العصر؟ أليست سنوات حكم أنجيلا ميركل تقارب سنوات حكم فلاديمير بوتين؟ ما نفع الديمقراطية إن لم يتمكن الفرنسيون بتظاهراتهم من إجبار الحكومة على تعديل فقرات بسيطة في قانون التقاعد؟ ما نفع الديمقراطية إن كانت تسمح باستجلاب الإرهابيين في إطار لعبة سياسية وجعلهم يصولون ويجولون على الأراضي الأوروبية؟
هذه التحولات كانت أرضها الخصبة، الصمود السوري، هذا الصمود جعل النفاق الأوروبي يخسر كلّ أوراق التوت التي كانت تغطي عورته، ولو أن سورية انتهى بها المطاف كما جرى في ليبيا، لرأينا الأوروبيين اليوم يباهون بقدرتهم على نقل التجارب الديمقراطية إلى دول العالم «المتخلف»، والتي تزداد ديكتاتورية برعاية «الرجعية القيصرية» في روسيا!
ثانياً: المسألة التركية
إن الخطر التركي على أوروبا ليس وليد هذه الحرب، هو من لحظة استلام العدالة والتنمية الحكم في تركيا، يومها كان الاتحاد الأوروبي يتعاطى مع التركي من مبدأ العصا والجزرة، وبمعنى آخر:
لنغرق حفيد العثمانيين بوعود الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي كلما دعت الحاجة للجمه. هذه الجزرة كانت بعض الملفات التي سمح لأردوغان بالتعاطي معها، كأن تستضيف أنقرة جولة من مباحثات إيران مع الدول خمسة زائد واحد لبحث الملف النووي، أو استغلال علاقته بالقيادة السورية بالتمهيد لكسر الحصار الذي كان مفروضاً على القيادة السورية بعد مقتل رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري، حتى جاءت حقبة ربيع الدم العربي وتقمص التركي منصب القائد الملهم لهذه الثورات الإخوانية المتأسلمة، يومها أظهر انضباطاً في التعاطي مع الأوروبيين بوجود الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما الذي برع بتقليم أظافر أردوغان في الكثير من الملفات، لكن ومع مجيء دونالد ترامب بات الأمر أكثر وضوحاً للأوروبيين، حيث باتوا ينظرون للأمر من خلال التمييز بين مرحلتين:
المرحلة الأولى، هي ما قبل التدخل التركي في ليبيا، إذ لا يمكن نسيان أن الأوروبيين طوال السنوات الماضية كانوا يتعاطون مع التركي من مبدأ عدو عدوي صديقي، كيف لا وهو يقارع ما يسمونه «النظام السوري» وحلفاءه وجل اهتماماته كانت حصد منصب الزعامة في العالم الإسلامي حسب النصيحة الأوبامية الشهيرة، هذه الطموحات تمكن الأوروبيون من التعاطي معها بهدوء لكونها لا تزعجهم بل على العكس، هذا السكوت عن التركي جلب استثمارات قطرية هائلة لكون القطري اليوم يعتبر «آمر صرف» عند التركي.
أما المرحلة الثانية فهي تجسدت عملياً بانكشاف الدور التركي في ليبيا، فالتركي الذي يحارب عدونا ليس ذاته الذي يطالب بإرث أجداده، من قال إن النزعة الدينية في أوروبا ماتت؟ ألم يقل يوماً أحد الساسة الأوروبيين عن الانضمام التركي إلى الاتحاد الأوروبي بأن الاتحاد لا يتحمل دخول ملايين المحجبات إليه!
ربما هو فرط نرجسية تركية من مبدأ غلطة الشاطر بألف، هذا الخطأ نبه الأوروبيين للكثير من القضايا التي باتت خارج أيديهم، لكنها نبهتهم للسؤال الأهم: من هو ذاك القادر على مواجهة تركيا الحالية دون تحول المنطقة إلى منطقة صراع خارجة عن السيطرة؟
يريد الأوروبيون التعاطي مع الملف التركي من مبدأ لا ضرر ولا ضرار، فليس صحيحاً أن الجميع يتشارك بفكرة جر تركيا نحو الفخ السوري تمهيداً لتقسيمها، فتركيا المقسّمة والمتشرذمة هي أشد خطورة في محيطها من تركيا الموحدة. إن التدمير الذي يريده الأوروبيون الآن هو تدمير للايديولوجيا لا تدمير للجغرافيا، هذا الأمر تحققه لهم ببساطة معركة إدلب، والتي من الواضح أنها شكلت نجاحاً لما تسعى إليه العديد من الأجهزة الأمنية الأوروبية «العاقلة»، والتي تبدو نظرتها ومنذ سنوات مختلفة عن الساسة لكنها لا تملك القرار، نظرةٌ يمكننا تلخيصها بالتالي:
إن لم نكن قادرين على الوقوف مع الروس والسوريين في هذه المعركة لاعتبارات كثيرة، علينا على الأقل عدم إعطاء رجب طيب أردوغان صك اعتماد في العلن. تعلم الكثير من الأجهزة الأمنية الأوروبية أن أردوغان تغلغل بفكره المتطرف قومياً ومذهبياً في عقول الكثير من أبناء الجاليات المشرقية، لكنهم يدركون تماماً أن سقوط أردوغان في سورية سيعني سقوط كل ما بناه في العشرين سنة الماضية، فلا وقت اليوم للإصغاء إلى لعبة السياسيين ولا المناورة والاختيار، فماذا ينتظرنا؟
باختصار عندما لا تترك لك صديقاً عليك أن تتوقع العداوة حتى ممن اعتبرك يوماً تحقق طموحاته، هذا في السر، أما في العلن فلا تكترثوا كثيراً لجعجعات السياسيين وتصريحاتهم، ومن لا يصدق ليسأل وزير الخارجية الفرنسي الأسبق آلان جوبيه، ألم يقل له وزير الخارجية وليد المعلم: «اللي بعيش بشوف» هو فعلياً «عاش وشاف»، ليس ذلك فحسب لكنه كخلفه لوران فابيوس بحث عن منصب بحصانة يقيهم شرّ المساءلة، فكيف وطموحاتهم بـتدمير سورية وتقسيمها عبر اسطوانة «رحيل الأسد» تتساقط تباعاً على مشارف إدلب؟
هي كذلك ومن لا يصدق فليدقق في كلام الرئيس الفرنسي في المؤتمر ذاته بأن بلاده تتفق مع روسيا على أن ‏الوضع في مدينة إدلب السورية «غير مقبول»، هذا الاتفاق مع الروس ليس مبالغة، هو يعي ما يقول تماماً فهل هي الواقعية الأوروبية؟ لا أبداً الواقعية لا تبنى على دماء الأبرياء، هي السفالة السياسية الأوروبية بكل تجلياتها عندما تتجاوز الحقائق وتدعم القاتل.
كم كنا وفرنا من دماء وخراب؟!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock