مقالات وآراء

معركة ميسلون ووثيقة وطن

بقلم: إسماعيل مروة

صدر في دمشق كتاب (مئوية معركة ميسلون) في ذكرى الشهيد البطل يوسف العظمة، وذلك عن مؤسسة وثيقة وطن، ضمن سلسلة الوثائق، والكتاب يكتسب أهميته من تناوله لشخصية عظيمة في تاريخ سورية الحديث، وأول شهداء استقلال سورية وحريتها يوسف العظمة، وأهميته الثانية يأخذها من توقيت صدوره، فسورية تمر بمرحلة خطيرة في حياتها، وتترافق هذه المرحلة مع مرور مئة عام على معركة ميسلون واستشهاد يوسف العظمة، وكأن هذا الإصدار يمثل تحدياً حقيقياً من محبي سورية وحريتها واستقلالها أمام الطامعين والغزاة الذين يريدون سلب سورية حريتها.. والأهمية الثالثة وقد تكون الأولى هي صدور هذا الكتاب عن مؤسسة سورية جادة ولدت من رحم الأحداث لترصد حياة سورية وتوثقها، هي مؤسسة «وثيقة وطن» التي أعطت الكتاب الكثير من المصداقية والتوثيق، وعدم التدخل في الوثائق وتحليلها، فكان الكتاب شاهداً ووثيقة ضمّ كما قالت المؤسسة (بعض) وليس كل ما تعلق بميسلون من وثائق، وجاء بالنص (قامت مؤسسة وثيقة وطن بجمع شهادات بعض معاصريه من ضباط ووزراء لوضعها بين يدي القارئ الكريم).. وهذا أبعد المؤسسة والمعدين عن الادعاء، ووضعهم في مكان الخبرة والتخيّر لما يشكل وثيقة ضرورية وحقيقية.

 

وثيقة وطن وميسلون والزمن

قبل ثلاث سنوات أنشئت مؤسسة وطن نتيجة حاجة وطنية فرضتها الحرب على سورية، ورؤية إستراتيجية مستقبلية لما يمكن أن يصل للأيام القادمة من وثائق، وما يمكن أن تطويه صفحات النسيان، فجاءت المؤسسة لتغطي جوانب عديدة أهمها التراث الشفوي، والتراث المادي، والتراث اللامادي، على ما في هذه الفروع من تداخل واشتباك، وفي الوقت نفسه التفتت المؤسسة إلى الوثائق التي صنعت حاضرنا، أو غيرت منه، وهذا ما كان من نشرها  لوثائق سايكس بيكو مترجمة ترجمة علمية، والتفتت كذلك إلى فن (التراجم)  أو ما يعرف بالمصطلح السير العلمية أو الغيرية، وفي هذا الجانب يقع كتاب المؤسسة ميسلون، فهو سيرة بطل، وقصة معركة، وملحمة وطن، وقصة ميسلون الخالدة الباقية، وبإصدار المؤسسة لهذا الكتاب قدّمت أولى الوثائق التي يحتاجها السوريون والجيل الشاب تحديداً لقراءة تاريخه موثقاً لا يعتمد التحليل والرؤى، ليقرأ كل واحد ويفهم كما يشاء دون أي تأثير من كاتب أو مموّل أو ما شابه ذلك.

 

المناسبة والغاية

قدّمت لهذا الكتاب المهم للغاية الأستاذة الدكتورة بثينة شعبان المستشارة السياسية لدى رئاسة الجمهورية، وهي باعث فكرة وثيقة وطن وبينت أن الكتاب جاء لأسباب عديدة، وليس لسبب واحد (يأتي هذا الكتاب في ظل عدة مناسبات قومية مهمة، أولها الذكرى العشرون لرحيل الرئيس حافظ الأسد وتولي الرئيس بشار الأسد مقاليد الحكم يوم 17 تموز 2000. وثانياً: احتفالاً بالذكرى المئوية الأولى لمعركة ميسلون يوم 24 تموز 1920 إكراماً لهذا البطل، قمنا في مؤسسة وثيقة وطن بجمع صفوة ما قيل عنه بقلم معاصريه، مع إضافة ترجمة للوثائق التاريخية المهمة المتعلقة بمعركة ميسلون المأخوذة من أرشيف الخارجية الفرنسية).

في هذا التقديم تبين الدكتورة شعبان الدوافع التي حدت إلى إصدار هذا الكتاب التوثيقي الذي اعتمد على صفوة الوثائق المنشورة، ووثائق أخرى من الخارجية الفرنسية تتعلق بميسلون ويوسف العظمة، فأكرم بوطن يكرّم أبطاله بعد مئة عام على انزراع بطولاتهم في الأرض السورية ليعطي رمزاً يجب أن يستمر في مقاومة  المحتل ودحره، وعدم الاستسلام لأي ضغوط خارجية كما فعل العظمة ورفاقه.

 

بين الوثيقة والحكايات

عندما علمت بصدور الكتاب سألت: ماذا يمكن أن يقدّم؟ وحين قرأته وأمعنت النظر وجدته مختلفاً، فهو ليس إنشاء أو مدحاً، ولا يضم الآراء والأهواء في ذلك اليوم وبطله، ولا يميل إلى جهة سياسية دون أخرى أو إلى شخص دون آخر من شخصيات تلك المرحلة، وأهم ما في هذا الكتاب الوثيقة ابتعاده عن الحكايات التي تتصف بالمبالغة سواء في البطولة أم ضدها، فقدم شخصيات ميسلون المعروفة والعادية كما رواها معاصروها بشكل إنساني عادي في جل التصرفات والمجريات.

وكانت محتويات الكتاب ذات جوانب ميدانية عسكرية، ويومية سياسية، ومتشابكة بالعلاقات الدولية آنذاك، وراسمة لبطولات السوريين في ذلك الوقت، وبطولة العظمة تحديداً، وكذلك لم تغفل الوثائق أنسنة الإنسان، في البطولة والجُبْن، في الإقدام والانسحاب عند المواجهة، وذلك بأقلام من رأوا، وليس بأقلام من سمعوا..

ضم الكتاب بعد التقديمات والمؤشرات التاريخية، الوثائق التالية:

– سورية والعهد الفيصلي من مذكرات يوسف الحكيم.

– الانتداب الفرنسي الغاشم على سورية من مذكرات حسن تحسين باشا الفقير.

– ميسلون: نهاية عهد من مذكرات صبحي العمري.

– معركة ميسلون للمؤرخ إحسان هندي.

– يوم ميسلون من مذكرات ساطع الحصري.

– ميسلون في الأرشيف الوطني الفرنسي، الوثائق- المراسلات.

وإذا ما عدنا إلى ما كتب سابقاً عن ميسلون، باستثناء الكتب التي كتبها معاصرون ومعايشون، والوثائق السابقة ضمناً، فإننا لن نجد سوى أحاديث أمنيات أو تحليلات، أو

مقالات أدبية تعجّ بالخيال لهذا الكاتب أو ذاك، وهي كتب مهمة، لكنها ليست الأكثر أهمية لقراءة التاريخ الوثيقة، والاعتبار منه، والاقتداء به.

لذلك لابد من إمعان النظر في هذه الوثائق، واختيار نماذج منها تظهر أهميتها الحقيقية، التي جعلت أمر العودة إليها ضرورة ملحة.

1- مذكرات الحكيم والمشاركة السياسية

وثيقة الحكيم وثيقة سياسية لشاهد معاصر معاشر، وفي بدايتها إشارة إلى أن العظمة لم يكن مغامراً كما يقول كثيرون، وإنما كان فارساً وإستراتيجياً ومخططاً، وهو يقول: «لولا سبق تراجع الجيش السوري عن استحكاماته في مجدل عنجر وغيرها، لما حلّت الكارثة في ميسلون بمثل هذه السرعة».

والحكيم ضمن الكوكبة السياسية التي رأت بنفسها «دخلت الساعة العاشرة من ضحى 24 تموز بهو مجلس الوزراء، وقلت للرئيس الجليل السيد هاشم الأتاسي…».

وبمتابعته السياسية اللحظية يقول الحكيم: «بعد أن وقع البطل يوسف العظمة، وزير الحربية، شهيداً في معركة ميسلون إثر هجومه على مصفحات العدو هجوماً أدهش الأعداء وبرهن على استخفافه بالحياة، وأعطى المثل الرائع في التضحية دفاعاً عن المبدأ الوطني والحرية والاستقلال لم يجد الجيش الفرنسي المجهز بأقوى معدات الحرب مقاومة تذكر، فأخذ يتقدم نحو دمشق وتحصن في ضواحيها».

وبتفصيل هذه الوثيقة نعيش أجواء سورية السياسية ما قبل معركة ميسلون، وفي أثنائها، وفي مرحلة لاحقة، حيث عمت الفوضى، وساء حال البلاد، مع ما يمكن أن نستخلصه من وجود أسماء مذكورة ليست سورية، ولكنها كانت تشكل جزءاً من تكوين الحكومة العربية الناهضة.

2- مذكرات الفقير والميدان العسكري

يدور جدل حول مجريات ميسلون خاصة لدى الكاتبين، وتأتي وثيقة حسن الفقير لتجلو حقيقة مجريات المعركة، (في صبيحة أحد الأيام تلقيت أمراً من معالي وزير الحربية بأن أعدّ الجيش لعرض عسكري..) ويذكر (بناء على أمر وزير الحربية، أرسلت اللواء الثاني المشاة الذي يقوده المقدم توفيق بك العاقل لمنطقة مجدل عنجر، واللواء الرابع لمنطقة حاصبيا وراشيا، وذهبت بنفسي مع اللواء الثاني لتنظيم خط الدفاع، فحفرنا الخنادق وأقمنا المتاريس…) وفي شهادته يقول: (وجدت جماعة من الجند تبلغ الخمسين، ومعهم ثلاثة ضباط… وبعد هنيهة صادفت ما ينوف عن المئة جندي مع بعض الضباط، وبعد برهة أخرى رأيت جماعة من الجند ثالثة ثم رابعة.. إلى أن وصلت إلى ميسلون حيث وجدت القوة الباقية..) هذه الوثيقة من الأهمية بمكان، فهي تتحدث عن حنكة القائد وخططه وبسالته، وفي الوقت نفسه يذكر الفقير، وهو قائد فرار جند وضباط من أرض المعركة، ولولا أن الكاتب يوثق ما عاشه كان من الممكن ألا تصل الحقيقة.

3- العمري وتشريح الواقع

وجاءت وثيقة صبحي العمري لتكون مشرّحة للواقع العملي على أرض الواقع في الميدان السياسي والعسكري، ففصّل في الجيش وتوزعه، والقوات الفرنسية، وتسليح كل جانب منهما وتفصيل الخطط الحربية والتحركات العسكرية في مشهدية تضعنا أمام المعركة بتفاصيلها المؤلمة التي تدفع إلى النشوة بما كان من بطولة الوزير وجنوده، وهم على دراية بالفوارق الكبيرة.

الهندي والحصري شهادتان في السياسة والأسباب

المؤرخ إحسان هندي يوثق المراسلات التي دارت مع بعض التحليل التاريخي المنطلق من قراءة الوثائق، ويظهر الأسباب الكامنة وراء معركة ميسلون ليخرج من إطار فكرة إنذار غورو إلى آفاق أكبر وهي الأسباب الإستراتيجية العسكرية والأسباب السياسية، والأسباب الاقتصادية، وكل ذلك يتعلق بواقع سورية وفرنسا في ذلك الوقت، وقد سجّل المؤرخ تفاصيل تفتقدها الوثائق وصولاً إلى المعركة ونتائجها.

أما ساطع الحصري وكتابه يوم ميسلون فيعد الوثيقة الأكثر حضوراً من هذا اليوم المجيد، وأهمية ما وثقه ساطع الحصري تنبع من أنه كان ملازماً للعظمة وكان وزيراً، وشارك في المفاوضات مع الفرنسيين، وعاش بعد الاستقلال زمناً، ونقل إلينا محاضر الجلسات والاجتماعات، بل وسجل كتاباً خاصاً يتناول ما قبل ميسلون، ومجريات ميسلون السياسية والعسكرية، وما نتج عن ذلك، مروراً بالمراسلات والرحلات بين الجانبين السوري والفرنسي، وعندما اختارت وثيقة وطن كتاب يوم ميسلون، وقد طبع مجدداً في وزارة الثقافة، فإنها اختارت وثيقة مرموقة موثوقة، ومن الكتاب اختارت المجريات المتعلقة باليوم المجيد والشهيد العظمة.

 

الوثائق الفرنسية وأهميتها

كل ما في الكتاب الوثيقة مهم، ولعلّ الأكثر أهمية على صغر حجمه الوثائق المأخوذة من الخارجية الفرنسية، خاصة بين القادة السياسيين في باريس والقادة العسكريين على الأرض، وهذه الوثائق تظهر النزعة العدوانية المجبولة بالخوف من البطولة ومن ذلك ما قاله ميلران: «فرنسا حصلت على الانتداب على سورية وبالتالي تعتبر أنه من حقها وحدها تقرير شكل الردّ على فيصل وما إذا كان الاتفاق معه ممكناً أو لا..».

من العسير أن يرى القارئ هذا الكتاب الوثيقة ولا يتوقف عنده، ومن الصعب أن يتم إيجازه، لكنها إشارات تدفع إلى قراءته والتمعن فيه، ويقتضي المقام الإشادة بما قامت به (وثيقة وطن) في خ

طوة لتوثيق سيرة وطن ومناضلين.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock