مقالات وآراء

«هبة العروبة» بنسختها «البدوية»!

خطاب الرئيس بشار الأسد أمام مؤتمر وزارة الخارجية السورية مهم للغاية، ليس فقط لأنه وضع أسس وتوجهات السياسة الخارجية السورية، وهو ما سيحدد خطوات الدبلوماسية السورية في المرحلة القادمة، وبرامج عملها، وضرورة الارتقاء بالعمل الدبلوماسي، وبالمهام المطلوبة منه التي لم تعد تقتصر على العمل السياسي، إنما أضيفت إليه مهام اقتصادية وثقافية وعلمية، ولكن لأنه قدم تحليلاً معمقاً غاية في الروعة والدقة من جهة إيضاح طبيعة الحرب في سورية وعليها، وموقعها في الصراع الجيوسياسي الكبير على مستوى العالم.

دون هذا الفهم العميق لطبيعة هذه الحرب سيبقى البعض ضمن الزواريب إما بمنهج تحليل مذهبي طائفي من دون إدراك أن الأمر المذهبي هو عُدة النصب والاحتيال لتوجيه الأنظار بعيداً عن الأهداف الحقيقية والمخفية، أو بمنهج تحليل إثني تستخدم فيه جماعات إثنية ضد الآخرين كأداة أيضاً لتحقيق أهداف المشروع الأصلية.

الرئيس الأسد كان واضحاً ومنطقياً وموضوعياً في طرحه وتحليله للأمر، حينما أشار إلى ما يلي:
1- سورية عبر التاريخ هي هدف، ومن يسيطر على هذا الهدف تكن له اليد العليا في الشرق الأوسط، والتاريخ القديم نموذجاً بمعركة قادش عام 1274ق.م بين الفراعنة والحثيين، ولاحقاً الموضوع نفسه لم يتغير، وحتى في تاريخ سورية المعاصر كانت يد الـ«سي آي إيه» واضحة في أول انقلاب عسكري بعد الاستقلال من أجل السيطرة على مركز القرار السياسي، وتركيب نظام موالٍ لواشنطن في مواجهة الاتحاد السوفييتي آنذاك، ومئات الأمثلة يمكن سوقها للتدليل على ذلك.
2- سورية جزء من الصراع الكبير على المستوى العالمي المتمثل بشعور الغرب أنه بدأ يفقد هيمنته وسيطرته، وأن هناك قوى جديدة صاعدة تنافسه، مثل روسيا والصين، وتشاركه القرار العالمي بعد أن كان وحده إثر سقوط الاتحاد السوفييتي عام 1991.
3- هل كان بالإمكان تفادي هذه الحرب؟ بالقطع لا: لأن هناك مشروعاً مرسوماً، ويسير خطوة خطوة منذ ثمانينيات القرن الماضي والمثال بالحرب العراقية الإيرانية، ثم حرب الخليج الأولى، وبعدها أحداث 11 أيلول في الولايات المتحدة، واحتلال أفغانستان، واحتلال العراق، ثم «الربيع العربي» الأسود والعدوان على سورية عام 2011، وما بينها من أحداث عدوان تموز 2006.. إلخ، أي إن المشروع يسير خطوة خطوة.
4- ماذا لو نفذنا ما طلب منا، هل كان بالإمكان تفادي ما يحصل؟ الحقيقة أنه كُنا كمن يضع رأسه تحت المقصلة، لم يكن هناك أي مجال للتكتيكات التي يتشاطر البعض بالحديث عنها، مثل: لو فعلنا كذا لكان أفضل، أو لو فعلنا كذا لكان سينجينا!

إن التجربة التاريخية المعاصرة تكشف صدق كلام الرئيس الأسد من أن «كلفة المقاومة أقل من كلفة الاستسلام»، وهنا: الرئيس العراقي صدام حسين نموذجاً، إذ نفذ ما طلب منه في الحرب العراقية الإيرانية، ودمر إيران والعراق، ثم غزا الكويت معتقداً أنه يتمتع بحظوة لدى الأميركيين، وبعد ذلك القصة معروفة حتى إسقاطه، ثم إعدامه.

العقيد الراحل معمر القذافي دخل في الوهم نفسه حيث قدم للغرب كل ما طلب منه، بما في ذلك فتح ليبيا لاستثماراتهم، ودفع المال المطلوب في قضية لوكربي، وغير ذلك من الشروط ومع ذلك قتلوه في الشارع بشكل وحشي وهمجي.

حلفاء أميركا من حسني مبارك إلى زين العابدين بن علي… إلخ، وقبلهم شاه إيران، وعدنان مندريس في تركيا وغيرهم كثيرون، عندما ينتهي دورهم يرمون إلى مزبلة التاريخ، ولذلك فإن القائد التاريخي هو الذي يدرك ويقرأ بعناية دروس التاريخ، ويدافع عن مصالحه الوطنية، ويواجه التحديات المصيرية بشجاعة وبسالة، وهذا ما فعله الرئيس بشار الأسد طوال السنوات السبع من هذا العدوان.

إذاً نحن جزء من هذا الصراع الكبير الذي استثمرت فيه بداية الأداة المذهبية والدينية، لجر المنطقة إلى اشتباك كبير واستقطاب جاء لخدمة المشروع الغربي الذي يريد تقسيم وتفتيت هذه المنطقة التي تسمى الشرق الأوسط، للهيمنة عليها والتحكم بمواردها، تمهيداً للانتقال إلى جوار روسيا والصين في أفغانستان، وآسيا الوسطى لاحقاً، ومن ثم لا يمكن الفصل أبداً بين ما يجري في سورية وأوكرانيا وكوريا الديمقراطية ومناطق البلطيق وبحر الصين الجنوبي، لأنها كلها جزء من هذه اللعبة الكبرى التي لها أدوات وظيفية مثل: دول، منظمات، إعلام، مال، مشايخ، جوامع، نُخب فكرية، صحف، مجلات، تلفزيونات، استخبارات… إلخ.

الآن بعد أن هُزمت بعض الأدوات الوظيفية وانكشفت، وفضحت كان لابد من تغيير العناوين والشعارات وتجديدها، ولذلك علينا أن نراقب الآتي:
1- فجأة وعبر الطلب من ولي العهد السعودي محمد بن سلمان تستدعى «العروبة»، وتصبح هي العنوان الجديد للمرحلة القادمة عبر جذب السيد مقتدى الصدر، والاندفاع نحو العراق لإعادته إلى حاضنته العربية حسب زعمهم!
من دون أن يسألوا أنفسهم أين كانت العروبة عندما سهلوا العدوان على العراق وليبيا وسورية، وأين كانت العروبة عندما كان السعوديون يرسلون قتلتهم لذبح العراقيين والسوريين واليمنيين؟!
2- حماس سعودي إماراتي للتحرك نحو العراق، ولكن سراً، هم من يدعمون استقلال «إقليم» مسعود البارزاني ويدعمون بالخفاء ميلشيات في شمال سورية.
3- إن المطلوب كما يبدو لي، نقل المنطقة من صراع مذهبي شيعي سني فشل في تحقيق أهدافه، إلى أنواع جديدة من الصراعات تخدم المشروع الغربي أي «صراعات: عربية فارسية تركية كردية».
4- لا شك أن إعلان مسعود البارزاني رغبته في إجراء الاستفتاء في 25 أيلول المقبل لاستقلال الإقليم، يحظى بدعم إسرائيلي علني، ضد إرادة دول الإقليم الأساسية، ولكن مع دعم سعودي إماراتي أي عبر محمد بن سلمان، ومحمد بن زايد! فكيف تستوي العروبة مع دعم تقسيم بلد عربي مثل العراق، أو محاولات دعم نزعات انفصالية تهدد وحدة سورية في الشمال؟!

يبدو أن تركيا بدأت تشعر بالقلق البالغ، والوجودي نتيجة هذه التحولات، وبدأت تقرأ المعادلات بشكلها الصحيح، والتي قالها الرئيس الأسد في خطابه قبل أيام، ولكن العقل التركي الانتهازي كان يراهن على إسقاط الدولة السورية، ومد نفوذه إليها، وأخذ حصته من الدور الذي كُلفت به من دون تعلم أي درس من التاريخ، إذ كانت تعتقد أنها بتآمرها على دول الجوار مثل سورية والعراق، سوف تنجو برأسها من المقصلة التي تحدث عنها الرئيس الأسد، ولكنها اكتشفت أن المقصلة آتية إليها كغيرها.

الأتراك لم يتذكروا مطلقاً ما قاله الرئيس الأسد لهم في أيلول 2009 أثناء حفل الإفطار الذي أقامه حزب العدالة والتنمية على شرفه في مدينة اسطنبول حيث دعاهم بوضوح شديد كما كل شعوب المنطقة إلى التوقف عن أن نكون وقوداً لمشاريع الآخرين على أرضنا، ولكن لا أحد منهم يقرأ التاريخ، ولا أحد منهم ينظر للأمور بمنظار رجل الدولة، بل إن نظرتهم كانت ضيقة الأفق، انتهازية تعيش وتعتاش من دماء شعوب المنطقة.

ما لفت نظري لكل هذا، هو الكتابة في الصحافة التركية عن هذه المخاطر الوجودية على أنقرة، حيث كتب إبراهيم قره غول الصحفي المقرب من الدوائر الحاكمة في تركيا بتاريخ 17 آب الجاري مقالاً لافتاً بعنوان «هذا هو الخطر الأكبر في تاريخ الجمهورية التركية!» يتحدث فيه عن التحالفات الجديدة في المنطقة التي ستحول الأعداء إلى أصدقاء، والأصدقاء إلى أعداء، ويحذر من التوجه السعودي الجديد تجاه العراق، والذي هدفه إضعاف نفوذ إيران هناك، وكذلك محاولات استهداف تركيا عبر الكانتون الكردي في شمال سورية، ويشير إلى حلف جديد يتشكل: مصري سعودي إماراتي إسرائيلي، ويدعو لحلف تركي إيراني عراقي سوري مع روسيا، كما كانت لافتةً دعوته لحسم موضوع الانفتاح على دمشق بشكل مباشر!
وهنا لا أعتقد أن قره غول يكتب من بنات أفكاره، لأنه في المقال نفسه هاجم أولئك الذين يعارضون الانفتاح على دمشق واصفاً إياهم بأنهم ليس لديهم حلول لتركيا، وليس لديهم سوى العنتريات الفارغة!

الرئيس بشار الأسد كان واضحاً في خطابه الأخير عندما قال: لا يمكن لدمشق أن تعطي شرعية تحت أي يافطة للاحتلال التركي، ولا فتح للحوار إلا بعد القطع العلني لعلاقة هذه الأطراف بالإرهاب والإرهابيين، والتواصل العلني من دون مكابرة مع دمشق.

هل المنطقة مقبلة على خلط أوراق من جديد، وتحالفات جديدة؟ يبدو لي ذلك، لأن التطورات سريعة وواضحة، وعلينا أن ندرك أن «هبة العروبة» المفاجئة بنسختها البدوية، ليست اختراعاً من ابن سلمان وابن زايد، إنما تخطيط أميركي بريطاني إسرائيلي بمقاربات جديدة، ومن هنا علينا أن نقرأ زيارة رئيس أركان الجيش الإيراني لتركيا، والمقاربة الجدية من إيران وتركيا للمسألة الكردية التي يراد استخدامها الآن مع «الهبة العروبية» على العراق، وقد يكون سورياً أيضاً.

اقرؤوا خطاب الرئيس الأسد جيداً، لنفهم لماذا ستشهد المرحلة القادمة تطورات كثيرة إيجابية، وفي الوقت نفسه تحديات جديدة علينا مواجهتها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock