مقالات وآراء

هل سقطت الأقنعة؟

بقلم: أ. د. بثينة شعبان

حين صدر أول كتاب لي في اللغة الإنكليزية بعنوان «باليمين والشمال: النساء العربيات يتحدثن عن أنفسهن» عام 1988 دعتني دار النشر The Women Press «و ومن برس» أن أقوم بجولة في المملكة المتحدة للتعريف بكتابي والترويج له. وفي أول جلسة حوار مع عشرات من النساء البريطانيات تأبطت كل واحدة منهن نسخة من الكتاب قلت لهن: «لقد قلت كل ما أريد قوله في هذا الكتاب ولا إضافات لدي ولكن بما أنه يبدو لي أنكن قرأتن الكتاب دعوني أبدأ باستقبال أسئلتكن حول ما كتبت». رفعت امرأة بريطانية وقورة في السبعين من عمرها يدها وقالت «في الحقيقة لا أعلم كيف أصيغ السؤال وأخشى أن يكون محرجاً ولكن يبدو لي من هذا الكتاب وكأنكنّ العربيات تشبهوننا». ابتسمتُ ابتسامة ساخرة وقلت لها: «ماذا تتوقعين أن يكون ردياً؟» هل تريدين أن أقول لك إننا نتشرف بأننا نشبهكم مثلاً؟ وضحكتُ وضحك عدد من النساء معي ولكن لم يكن يخطر لي على بال أنه بعد أربع وأربعين سنة من ذلك التاريخ سأشاهد واسمع من يختصر المعاناة الإنسانية في حرب على أساس من يشبههم في لون بشرته وعيونه، وعلى أساس أن هذه أوروبا وليست العراق ولا سورية ولا أفغانستان، وعلى أساس أنه من المقبول والمفهوم أن يصبح أصحاب السحنة السمراء قتلى ولاجئين وفقراء ولكن لا يجوز أن يحدث هذا للأوروبيين أصحاب السحنة البيضاء والعيون الزرقاء، وكأنهم نسوا حروبهم المتتالية في القارة الاستعمارية المتوحشة وهي حروب تحمل عدد سنواتها مثل حرب المئة عام وحرب الأربعين عام والحربين العالميتين الأولى والثانية، وكأنهم نسوا المجازر في الحرب على يوغوسلافيا السابقة والمجازر التي تعرض لها البوسنيون وهم جميعاً من البيض وعيونهم زرقاء.

لم يكن يخطر لي ببال أنه بعد عقود من تدريس أدب «ما بعد الاستعمار» في الجامعات الغربية وبعد كل المعلومات المتوافرة على بعد نقرة إصبع من أي إنسان يريد أن يعرف أو يتعلم أن هناك من يختصر حضارات وتاريخاً وشعوباً ومعاناة إنسانية صاعقة بلون البشرة، وأن التعاطف مع الألم والنزوح والفقر واللجوء يتوقف على لون بشرة أو انتماء عرقي أو طائفي لأننا نحن هنا في الشرق نجد من المستحيل أن نفكر بهذه الطريقة لأننا نشأنا أن نتعاطف مع الألم أياً كان من يعانيه، ولأننا نشأنا في مجتمعات هي بالأصل مزيج من الألوان والأعراق والأديان وخاصة أن الحروب والأوبئة هي أكثر الأوقات تاريخياً التي تدفع الناس حيثما كانوا للبحث عن المشترك لأن الألم يوحدهم، والفقر والتهجير يذكرهم بأنهم كلهم سواء في هذا القارب العالمي الذي تتلاطمه الأمواج وتكاد تقوده إلى التهلكة. أما أن ينبري أهم محطات التلفزة والإذاعات وأهم الإعلاميين والإعلاميات في الغرب الذي عرف بعنصريته واتسامه بالتفوق العرقي ليختصروا كل ما يجري في هذه المرحلة التاريخية الصعبة في أوكرانيا بالتعبير عن «التفوق الغربي والأوروبي» على باقي البشر كاشفين عن عنصرية استعمارية متجذرة في تفكيرهم ورؤاهم؛ فهذا ما لم يكن أحد ليتجرأ باتهامهم به لولا أنهم نطقوه وأكدوه وأصرّوا عليه بأنفسهم.

من هنا نعيد بقراءة رجعية لكل التشويهات التي أدرجوها في تفسيراتهم لكتاب المفكر العربي الفلسطيني الفذ إدوارد سعيد «الاستشراق» الذي صدر في سبعينيات القرن الماضي لأنه كتب قصة العنصرية هذه من خلال تجربته الشخصية في المجتمع الأميركي وفسرها تفسيراً منطقياً ما زالت الأيام والأحداث تثبت صحته؛ فقد أكد المرحوم إدوارد سعيد أن الغرب خلق صورة الآخرين كأناس غير متحضرين فقط كي يثبت أنه هو المتحضّر، وبهذا فإن استمرار تفوقه الحضاري يعتمد على استمرار مفهوم تخلف الآخرين ولكونهم لا يرقون إلى مستواه الأخلاقي والعقلي والحضاري، ومن هنا قامت كل نظريات الاستشراق لتثبت أن الآخرين أقلّ من الغرب وأن الغرب يذهب في أصقاع الأرض ليحتلّ البلدان والشعوب فقط كي يحضّر هؤلاء المستعصين على التحضّر؛ فمهمته نبيلة ألا وهي نشر قيم الحضارة الغربية في محاولة أن يرتقي بهذه الشعوب إلى مستواه وكي يشبهوه في الفهم والتمدن والحضارة، طبعاً بعد قتل الملايين منهم الذين يقاومون الاحتلال ونهب ثروات هذه الشعوب وتدمير قيمها ومسخ تاريخها، وهذا ما شكّل ولا يزال يشكّل الغلاف لكلّ ما قاموا به من استعمار بغيض وما زالوا، ومن نهب ثروات الآخرين ، وقمع دموي وحشي للسكان الأصليين «غير القادرين على أن يكونوا مثلهم». ومن هنا يقول إدوارد سعيد: «يمكن لك أن تنال المعرفة في الغرب ولكن لا أن تصبح «غربياً» أو «واحداً منهم»، مهما كنت ذكياً ومبدعاً ومتفوقاً تبقى أقلّ منهم بسبب تكوينك وعرقك أو دينك وانتمائك ولون سحنتك وعيونك».

من هنا نفهم ونوقن لماذا لا يحرك الغرب ساكناً ولا يدين عملاً إرهابياً خلال إحدى عشرة سنة من الإرهاب الذي تعرض له الشعب السوري، ولماذا لم يدن أحد منهم تدمير العراق بلداً وحضارة وعلماء وتاريخاً، ولماذا تفرض أبشع القوانين العنصرية من كيان الاستيطان والأبارتيد الإسرائيلي بحق الشعب الفلسطيني ويُقتل أطفاله ونساؤه وأسراه على مرأى ومسمع من العالم برمته ولكن أحداً في «الغرب المتحضر» لا يدين كل هذه الجرائم لأن الشعب الفلسطيني شعب عربي وليس أوروبياً أوكرانياً ولا أبيض السحنة ولا عيونه زرقاء ولذلك فهو لا يستحق الوقوف معه ولا يستحق تطبيق العدالة الإنسانية عليه.

إذاً بالنسبة للغرب العنصري صاحب نظرية العرق الآري النازية و«التفوق الأميركي بالقيم» نحن لسنا أبناء كوكب واحد وما يجمعنا ليس إنسانيتنا أبداً بل هناك درجات للإنسانية تقرّرها أسخف المعايير وأتفهها، ولذلك وخلال كل هذا التاريخ ورغم كل هذه الوفرة في الدراسات والمعلومات والأبحاث فإن الغرب لا يستطيع أن ينظر في المرآة ليرى عيوبه هو ، بل جرائمه التي يندى لها جبين الإنسانية من حروب ومجازر واستعمار واستيطان ونهب لثروات الشعوب، لأنه يرى نفسه استثنائياً ما دام هناك صنف آخر من البشر يعتبرهم أقل منه، حسب رؤيته هو، وبحاجة إلى مساعدة لكي يقارب مستوى التحضر، ولهذا فإن هذه «الاستثنائية الغربية» العنصرية المبنية على نظريات التفوق العرقي والأبارتيد مدمرة ليس فقط للشعوب التي تمارس العنصرية بحقها ولكنها مدمرة في النتيجة لذاتها لأنها غير قادرة على اجتراح تفكير نقدي لواقعها لسد ثغرات هذا الواقع وتصحيح المعطوب والمشوّه فيه.

الأزمة إذاً ذات وجهين: الوجه الأول يتعلق «بالاستثنائية العرقية الغربية» والتي سماها الرئيس الأميركي جو بايدن منذ أيام «بالعالم الحرّ» والذي هو ليس حرّاً على الإطلاق حتى من نفسه، ووجه آخر يتعلق بنا نحن الشعوب التي يعتبرها الغرب أقلّ منه بكلّ المقاييس ولكنّ بعضاً من أبنائنا يعتبرون أنهم إذا حصلوا على الثقافة الغربية والقيم الغربية أنهم أصبحوا جزءاً من هذا الغرب لهم ما له وعليهم ما عليه رغم أن كل أدوات الإعلام والتفكير والأحداث في الغرب تؤكد مرة تلو الأخرى على استثنائيته هو فقط وأنه مهما فعلنا لا يمكن أن نرتقي لنكون مساوين له.

لا شك أن الحرب الدائرة اليوم في الأرض الأوكرانية تعبّر بشكل عنيف عن هذه الإشكالية بين رفض الغرب أن يعترف بمساواة الآخرين له في القانون والشرعية والمصالح والحقوق، وبين طموح الآخرين المشروع أن يثبتوا أن من حقهم أن يكون لهم ماله وعليهم ما عليه في الأسس والمعايير والقوانين الدولية. هل وصل هذا الاصطفاف إلى مرحلة لا يمكن الخروج منه إلا بتدمير شامل وواسع يعيد بناء أسس العلاقات بين البشر بشكل أكثر عدالة واتزاناً واحتراماً لإنسانية الإنسان بغض النظر عن لونه أو دينه أو عرقه أو جنسه أو لون عينيه، أم إن هناك فرصة للمراجعة قبل أن يؤدي هذا المسار الخطير إلى دمار شامل غير مسبوق لا يستثني أحداً على هذا الكوكب؟ لقد سقطت أقنعتهم ولكن لابد لشعوبنا من أن تسقط الغشاوة عن أعينها، وهذا هو موضوعي القادم بإذن الله.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock