مقالات وآراء

أردوغان.. وتحديات ما بعد الانتخابات المحلية

تظهر ردود الأفعال والتصريحات المتشنجة لرئيس النظام التركي رجب طيب أردوغان وكبار قادة حزب العدالة والتنمية، مدى الصدمة وخيبة الآمال من نتائج الانتخابات المحلية، التي فقد من خلالها أردوغان وحزبه سلطتهم على المدن الكبرى، كالعاصمة أنقرة وأزمير واسطنبول التي يقال عنها: «أن من يحكمها يحكم تركيا» ليس لأنها أكبر المدن في عدد السكان والعاصمة الاقتصادية فقط، بل لأن سكانها متنوعون ويمثلون كل الأعراق والتوجهات السياسية، ولهذا يمكن معرفة سبب الإصرار من قبل أردوغان بتقديم الطعون على نتائج اسطنبول بالتحديد، حتى إن صحيفة «بلومبيرغ» عنونت في اليوم التالي للانتخابات: «أردوغان يعلم أن الإمبراطوريات السياسية يمكن أن تذوب في مدينة واحدة هي اسطنبول».
هذه الانتخابات التي لا يدرك أهميتها أحد أكثر من أردوغان الذي وصل لسدة الحكم في تركيا من بوابة رئاسة مجلس اسطنبول البلدي عام 1994، لذلك وصفها بأنه «مسألة حياة أو موت بالنسبة للبلاد»، ونتائجها رغم فوز حزب العدالة والتنمية بنسبة 44.4 بالمئة إلا أنها زادت من الضغوط والمتاعب لأردوغان وحزبه ووضعته بين فكي كماشة، لأنها تفرض عليه مواجهة جملة من التحديات ذات التأثير المترابط داخلياً وخارجياً.

التحديات الداخلية:
• صحيح أن حزب العدالة والتنمية عزز حضوره منذ صعوده للحكم عام 2002، في إدارة الملف الاقتصادي ونجح في أقل من عقد وبالتحديد 2011 أن يصل بتركيا إلى تسجيل أرقام قياسية على المستوى العالمي حيث احتلت المرتبة الثانية عالمياً بعد الصين في معدل النمو الاقتصادي الذي سجل 8.8 بالمئة، لينقذ بذلك البلاد من واحدة من أكبر الأزمات الاقتصادية التي عصفت بتركيا 2001، والتي أفضت إلى انهيار الليرة وارتفاع التضخم بنسبة 70 بالمئة وإفلاس 54 بالمئة من البنوك، إلا أن الاستثمارات ورؤوس الأموال الغربية والإجراءات والإصلاحات الهيكلية التي فرضت على تركيا من قبل «صندوق النقد الدولي» خلفت أزمات بنيوية في الاقتصاد التركي، وهي ثغرة نجحت عواصم الدول المناوئة لأنقرة من استثمارها خلال العامين السابقين في استهداف الاقتصاد التركي لتغيير سلوكه والضغط عليه من قبل واشنطن والسعودية والإمارات، وهذا كان له بالغ الأثر في فقدان المدن الكبرى التي تأثر الوضع الاقتصادي لمواطنيها أكثر من غيرهم نتيجة تراجع معدلات النمو وارتفاع البطالة وانخفاض قيمة الليرة بنسبة تجاوزت 35 بالمئة.
• رغم أن أردوغان استطاع التفرد بالسلطة وحصر صنع القرار واتخاذه بيده بعد التعديلات الدستورية التي نقلت تركيا من نظام برلماني إلى آخر رئاسي، إلا أن من شأن هذه الانتخابات أن تعيد تشكيل الخريطة السياسية في المشهد الداخلي التركي بشكل لا يتناسب مع طموحات أردوغان، وبخاصة في ظل توافر العوامل التالية:
1- إقصاء أردوغان لكبار مؤسسي الحزب مثل الرئيس السابق عبد اللـه غول ووزير الخارجية السابق أحمد داوود أوغلو، أدى لافتقار الحزب لشخصيات سياسية مؤثرة على الناخب التركي، وأوجد حالة من الامتعاض والتراخي داخل حزب العدالة والتنمية.
2- من شأن هذه الانتكاسة التي تعرض لها حزب العدالة والتنمية أن تدفع بعض رموزه الحاليين أو السابقين للالتحاق بصفوف المعارضة أو لإنشاء أحزاب سياسية جديدة خشية انتقام أردوغان منهم، وهذا قد يشكل فرصة تاريخية أمام المعارضة لتحسين فرص فوزها في الانتخابات الرئاسية عام 2023، في حال تمكنت من جذب هؤلاء وتوحيد صفوفها وخياراتها في انتقاء شخصية توافقية ذات ثقل ووزن سياسي تستطيع مجابهة أردوغان.

التحديات الخارجية:
تتمثل في عدة ملفات تتصدرها العلاقة المتدهورة مع الولايات المتحدة الأميركية فيما يتعلق بقضايا شكلت تجاذباً وصراعاً بين الجانبين ولاسيما رفض واشنطن للتوجه التركي في علاقات دافئة مع روسيا والتمسك بصفقة «إس400» مع روسيا، والانخراط في مسار أستانا الذي يمثل تعاوناً مع إيران، وضمن هذا التحدي فإن أردوغان أمام ثلاثة خيارات:
• مواصلة سياسة تفضيل مصالحه واللجوء للعناد السياسي ضد الإدارة الأميركية، في ظل تصاعد التهديدات من قبل الرئيس الأميركي دونالد ترامب وصقور إدارته لتركيا، والتي بلغت ذروتها في تخير تركيا بين التمسك بالناتو والعلاقة مع الغرب أو التوجه نحو روسيا.
• إمساك أردوغان العصا من المنتصف لقطع الوقت حتى بلوغ الانتخابات الأميركية واستغلال انشغال الداخلي الأميركي بالانتخابات لتحقيق بعض مصالحه، أو انتظار نتائج الانتخابات الأميركية القادمة لمعرفة توجهات الإدارة الجديدة.
• زيادة التوجه بعلاقات إستراتيجية مع خصوم الولايات المتحدة الأميركية وبخاصة العلاقة مع روسيا وإيران والصين، بما يضمن لأنقرة تحسين تموضعها الإقليمي من جانب والحصول على امتيازات اقتصادية من هذه الدول لتخفيف أثر العقوبات الأميركية.
أما التحدي الثاني أمام أردوغان فإنه يتمثل بالتحضير لملفات شائكة وساخنة أثناء محادثات أستانا القادمة، فالدول الضامنة منحت أردوغان وقتاً للتخلص من الضغوط التي فرضتها الانتخابات المحلية، وتشير المعلومات بأن لقاء «أستانا» المقبل لن يكون روتينياً، بل سيتضمن بحث نقاط تفصيلية مهمة، خاصة في ملف إدلب، بعد فشل تركيا في تحقيق أي إنجاز أو خرق في ملفي المنطقة «منزوعة السلاح»، و«تحييد الفصائل الإرهابية» ولاسيما «هيئة تحرير الشام» وباقي التنظيمات «القاعدية»، وهو ملف تدفع دمشق لحسمه، بعيداً عن حسابات «التهدئة» السياسية التي يبحث عنها أردوغان بشكل مستمر لفرض أمر واقع، وكذلك بحث إجراءات تنسيقية بين الدول الضامنة وضمن حدود اتفاق أضنه فيما يتعلق بمسألة شرق الفرات، التي لا تخفي دول ضامني أستانا الثلاثة رغبتهم في رؤية الجنود الأميركيين خارج الميدان السوري، وإن تباينت أسبابهم ورؤيتهم لمستقبل هذه المنطقة، فضلاً عن المسعى الروسي للإسراع بعمل اللجنة الدستورية والاتفاق على نقاط الاختلاف حولها.
بينما يتمثل التحدي الثالث في علاقة تركيا مع الاتحاد الأوروبي والناتو، فهذه العلاقة لم تكن أفضل حالاً في الآونة الأخيرة من مثيلتها الأميركية، بل شهدت تجاذبات كثيرة استطاع أردوغان خلال السنوات الماضية من استثمارها لتحقيق مصالح اقتصادية ولاسيما في استخدام ملف اللاجئين كأداة ضغط وانتقام من الاتحاد الأوروبي الذي أغلق الأبواب في وجه عضوية تركيا من جانب، ومن جانب آخر مثل توقيع وزير الدفاع التركي مع نظيره الروسي على اتفاق سوتشي وإصرار أنقرة على شراء الأسلحة الروسية ظاهرة خطيرة ومصيرية تنبئ باحتمالية انهيار الناتو التدريجي، لأنها قد تدفع دولاً أخرى للانجرار وراء تركيا.
أما التحدي الأبرز فيكمن في علاقة حزب العدالة والتنمية مع القوى الكردية، وهذا التحدي متصل على المستويين الداخلي والخارجي، فأكراد تركيا استطاعوا أن يكونوا بيضة القبان التي رجحت كفة خصوم أردوغان، أي حزب الشعب، في الفوز بالمدن الكبرى نتيجة نكران وجودهم واستمرار اضطهادهم سياسياً واجتماعياً، كما أن استمرار تهديداته باجتياح الشمال السوري والعراقي للقضاء على الإرهاب الكردي شكل عاملاً حرجاً له في الانتخابات الأخيرة لعدم قدرته على تنفيذ تهديداته بسبب الرفض الروسي الإيراني للقيام بأي عمل من دون التنسيق مع دمشق ضمن إطار بروتوكول أضنه، والحماية الأميركية لميليشيات «قوات سورية الديمقراطية – قسد».
صحيح أن هذه الانتخابات المحلية مثلت صفعة وجهها الناخب التركي لأردوغان، إلا أن الخيارات مازالت متعددة أمامه، ولاسيما أنه قد يلجأ في المرحلة القادمة إلى التحضير للانتخابات الرئاسية لعام 2023، عبر استغلال الصراع الأميركي الصيني لجلب الاستثمارات الصينية لبلاده مقابل تقديم المعلومات والتعاون في ملف الإيغور الذي تخشاه القيادة الصينية من جانب ويزيد من حجم العلاقات مع روسيا وإيران في إطار أستانا أو غيرها من جانب ثان، ولذلك ليس بالضرورة أن تدفع نتائج هذه الانتخابات بأردوغان نحو الانعزال الخارجي والاهتمام بالداخل، بل قد تشكل عاملاً نحو تصرفات أكثر عدوانية على صعيد الخارج لتحسين تموضعه التفاوضي وإبراز أهمية دور تركيا الجيوسياسي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock